إن واحات العلوم ليست بالظاهرة الجديدة. فقد تم إنشاء بعضًا من هذه الواحات في وقت مبكر في الخمسينيات والستينيات الميلادية، مثل واحة ستانفورد للأبحاث، وواحة بوردو للأبحاث، وواحة البحوث المثلثية RTP)). وقد أصبحت واحات العلوم أدوات فاعلة، لتعزيز التنمية الاقتصادية التي تقودها الجامعات منذ السبعينيات وحتى التسعينيات الميلادية وفي القرن الجديد. إلا أنه لم تحقق الواحات نجاحاتها على الفور، وصبرت طويلًا حتى بدأت تظهر مساهمتها وأهميتها، واستمر بعد ذلك إنشاء الواحات التي نجحت بعد سنوات عديدة من التطوير الصبور. وفي الآونة الأخيرة، ظهر الاهتمام بالواحات لعدد من الأسباب، منها:
أولًا، حدث تحول رئيس في كيفية مقاربة البحث الصناعي لمجال الأبحاث والتطوير(R&D) . وبدلًا من الاعتماد على مختبرات الأبحاث الداخلية لتوليد أفكار إبداعية، سعت الشركات لإقامة تحالفات إستراتيجية مع شركات وجامعات ومختبرات إقليمية أخرى. وأصبح من الشائع بشكل متزايد أن تفتح شركات التكنولوجيا الكبيرة مراكز أبحاث أو “مختبرات بحثية” بجوار جامعات الأبحاث الرئيسة.
ثانيًا، حدث تحول في طبيعة البحث نفسه. فالمزيد من التطورات والابتكارات العلمية الأكثر أهميةً يتطلب المزيد من فرق الأبحاث متعددة التخصصات، وفي كثير من الأحيان هي بحاجة إلى تشارك عدة مؤسسات متنوعة. ومن ثم، فقد سعت الشركات للمقاربة مع مثل هذه المؤسسات عبر واحة علمية مشتركة.
وأخيرًا، يوجد إدراك متزايد بأن قدرة الدولة أو المنطقة على المنافسة ضمن عالم النمو القائم على التكنولوجيا تعتمد على إيجاد بيئة مادية جذابة، تسهل التفاعل ما بين الصناعة والجامعة. ومن ثم، أصبحت واحات العلوم والحرم الجامعي المختلط مواقع جذابة، لتأسيس الشركات التكنولوجية وتطويرها، لأنها تنمو وتتوسع على نحو فاعل ومؤثر. ولم تعد تلك الحالة التقليدية التي تقوم على تقديم موقع يجذب الشركات إلى الاستئجار والقرب من الجامعة فقط، بل حلت محلها واحة البحث الجامعية، التي تعتبر موقعًا حقيقيًّا للعمل المشترك، وبؤرة مركّزة لنمو وتطوير الأعمال، والتوسع من نطاقها أيضًا.
ويوجد عام 2020م حوالي 900 واحة علمية متكاملة منتشرة حول العالم، وبحسب إحصاءات اليونسكو المنشورة في موقعها عام 2017م فإن الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تحتضن أكثر من 150 واحة علوم، حيث تعتبر الرائدة في تطوير ونمو الواحات العلمية، والتي يبرز من بينها واحة العلوم في جامعة ستانفورد المعروفة بوادي السيلكون Silicon Valley، الذي نشأت في أوائل الخمسينيات الميلادية 1950s، تليها أوروبا التي تملك حوالي 300 واحة علمية، وستبلغ عام 2020 ما يزيد عن 400 واحة علمية، تليها اليابان التي تمتلك 111 واحة علوم. أما في دول الشرق الأوسط فيبلغ عدد الواحات العلمية حوالي 40 واحة علوم. ومن جانب آخر فإن الصين قد بدأت التوجه نحو الواحات العلمية منذ الثمانينيات الميلادية 1980s وتطورت بشكل كبير ليتجاوز عددها 100 واحة علوم.
- تعريف الواحات العلمية:
الواحات العلمية لها تسميات كثيرة، منها : مناطق تقنية، أو مناطق علوم وتقنية، أو واحة تقنية Technology park، أو مدينة تقنية Technology precinct، أو مراكز علمية، أو مراكز ابتكار أعمال، أو مراكز التقدم التقني، أو تكنوبول Technopole وتكنوبول كلمة فرنسية، تعني الواحة العلمية أو التقنية. كما تم ترجمة الواحات العلمية نفسها بأكثر من ترجمة، فيطلق عليها أحيانًا الواحات العلمية، أو واحات العلوم أو أودية العلوم. غير أن تعريف بعض تلك التسمية قد يختلف بعضه عن بعض، وفقًا للأهداف التفصيلية، ونوعية التركيز في كل منطقة، وفي العموم فإن الاسم الشائع في الولايات المتحدة الأمريكية هو (واحة بحوث)، أما الاسم الشائع في أوروبا وآسيا وكندا ودول أمريكا اللاتينية هو (واحة علمية)، أو (واحة تقنية).
وهناك عدة تعريفات للواحات العلمية، وقد تختلف التعريفات من بلد لآخر، مما ينعكس أيضًا على الإحصاءات وعددها وكيفية عملها وتقويم نجاحها. غير أن كل تلك التعريفات تتفق على أن المكونات الأساسية لواحات العلوم هي:
- مبادرة قائمة على عقار موقعه قريب من مركز للتعلم.
- مرافق عالية الجودة محاطة بجو بهيج.
- إدارة نشطة في نقل التقنية ومهارة القيام بالأعمال للمستأجرين.
ومن أهم هذه التعريفات، تعريف الجمعية العالمية لواحات العلوم International Association of Science Parks (IASP) ، الذي يعرف الواحة العلمية بأنها:
“منظمة يديرها مهنيون متخصصون، هدفهم الرئيس زيادة ثروة المجتمع عن طريق الترويج لثقافة الابتكار، وللمنافسة بين الأعمال المرتبطة بها والمؤسسات القائمة على تقدم المعرفة”.
وقد تم الاتفاق على هذا التعريف من عدة هيئات مهتمة بواحات العلوم، منها مجموعة خبراء الواحات العلمية ومراكز الابتكار (SPICE).
كما تم تعريف واحة العلوم أو الواحة التقنية بأنها: “مكان معين أو افتراضي يقوم بإدارته فريق من المهنيين المحترفين، يقدمون خدمات ذات قيمة إضافية، وهدفهم الرئيس زيادة المنافسة في منطقتهم أو في مجال نفوذهم، وذلك عن طريق:
- إنعاش ثقافتي الابتكار والجودة بين المؤسسات القائمة على المعرفة، وما يصاحبها من أعمال.
- تنظيم نقل المعرفة والتقنية من منابعها إلى الشركات والسوق.
- تبني إنشاء شركات جديدة قائمة على أساس الابتكار والاستمرارية من خلال الحاضنة والتفرغ.
كما طرحت عدة جمعيات وطنية للواحات العلمية تعريفات خاصة بها، يمكن أن نبين في الجدول التالي مقارنة بينها:
الجدول رقم (1-7) مكونات تعريف الواحة
UKSPA
)المملكة المتحدة) |
TEKEL
(فنلندا) |
SISP
)السويد) |
APTE
)أسبانيا) |
IASP
(دولي) |
العنصر |
نعم | بشكل غير مباشر | نعم | نعم | نعم | تعزيز الابتكار والقدرة التنافسية للعملاء |
بشكل غير مباشر | نعم | بشكل غير مباشر | نعم | نعم | التنمية الاقتصادية المحلية أو الإقليمية التي تتضمن توفير المجالات والخدمات الأخرى |
نعم | لا | نعم | نعم | نعم | العمل وفق اقتصاد المعرفة |
نعم | لا | بشكل غير مباشر | نعم | نعم | تتضمن أنشطة الشركات التقنية الناشئة |
لا | نعم | لا | لا | بشكل غير مباشر | الاستثمار الداخلي للأعمال التجارية القائمة على المعرفة |
لا | نعم | بشكل غير مباشر | نعم | بشكل غير مباشر | تطوير التجمعات المعرفية أو الصناعية أو التقنية |
Source: European Union (2014) “Setting Up, Managing And Evaluating Eu Science And Technology Parks”.
ومن التعريفات السابقة يتضح أنه لكي تكون الواحة العلمية ناجحة، فلا بد وأن ترتبط بمنظومة ريادة الأعمال، ومعززة بمركز خبرة، فهذه الخاصية مهمة في الواحات العلمية، إلا أن مخازن التقنية والمعرفة لا تكون بالضرورة جامعات أو مرافق بحوث، بل يمكن أن تكون معامل أبحاث لشركات كبرى، إذا كان بقدورها تقديم مصادر تقنية، تضاهي تلك التي تقدمها الجامعات، وفي المملكة المتحدة توجد بعض الواحات العلمية مرتبطة بمؤسسات للبحوث، كانت تابعة للحكومة، ثم أصبحت مؤسسات خاصة.
وهناك مصطلحات مرتبطة بالواحات العلمية، مثل الواحة العلمية للبحوث، وخلية التقنية والواحات الافتراضية، ومدينة التقنية، وسوف نتطرق لها تباعًا فيما يلي:
1. الواحة العلمية للبحوث:
واحات البحوث هي منظمات مستقلة تبيع أو تؤجر أراض مجاورة ومبان لمنظمات أعمال أو أي منظمات أخرى، عملها الأساسي هو البحث الأساسي أو التطبيقي، أو تطوير وابتكار عمليات أو منتجات جديدة.
2. خلية التقنية:
هي مكان تتراوح مساحته بين مئات الأمتار المربعة إلى آلاف الكيلومترات، تتراكم فيه التقنية، بحيث تؤدي إلى تكوين شركة على المكان، وتصبح لها علاقات بالبيئة المحيطة، من خلال نشر التقنية وعمليات النقل بحيث تروج للتنافس بين الشركات المعروفة، كما أنها على اتصال بشبكات أسواق التجارة العالمية، ولها علاقات وطيدة معها.
3. مدينة (مناطق) التقنية:
يمكن تعريف مدينة (مناطق) التقنية Technopolis وفقًا للنموذج العملي لها كما يلي:
- خليط مكمل لبعضه البعض، يجمع بين أساتذة الجامعة والطلبة ومراكز البحوث، وما يقابلها من الشركات والحكومة.
- مزيج من مؤسسات الأعمال الصغيرة والكبيرة ومراكز ابتكار الأعمال.
وقد لاقت واحات البحوث كغيرها من مخططات التنمية الاقتصادية كثيرًا من الاهتمام، فهي في الواقع تولد مجالات عمل وتساعد على نمو الدخل على أقل تقدير. كما تساعد على الشراكة مع القطاع الخاص النامي في بعض المناطق.
- أهداف مناطق التقنية:
غالبًا ما تكون أهداف منطقة تقنية معينة خاضعة لأهداف الجهة الرئيسة المكونة لها، وحسب الأغراض التي تخدمها هذه المناطق، والتي منها:
- المساعدة في إنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة ذات تقنية عالية.
- المساعدة في إعادة الهيكلة الاقتصادية في الإقليم.
- نقل التقنية.
- استحداث وظائف.
- جذب مشاريع ذات تقنية عالية لشركات كبرى.
فالجامعات على سبيل المثال عادة ما تقوم بنقل التقنية من الجامعة، واستغلال مخرجات أبحاثها تجاريًّا، بالإضافة إلى توظيف وتدريب الطلبة، واستخدام أساتذة الجامعة في مشاريع الأبحاث والتطوير في المنطقة، وهذه الأهداف تختلف عن أهداف البلدية، التي قد تتمثل في تنمية اقتصاد المنطقة، وجذب الاستثمارات والوظائف إليها. وتربط مناطق التقنية مخرجات البحث والتطوير بالتجارة والإنتاج والاستشارات والتدريب، لتوجد بيئة أعمال اقتصادية مترابطة ومتكاملة ،مبنية على المعرفة الفنية/ التقنية، ويسمح في منطقة التقنية عادة الأنشطة الآتية:
- أبحاث وتطوير، ومختبرات.
-
- تصنيع وتجميع نماذج أولية ومنتجات عالية التقنية، في مجال تقني مستهدف، (مبنية على مخرجات أبحاث وتطوير، أو ابتكار، أو براءة اختراع).
- مراكز أعمال لمنتجات عالية التقنية في مجال تقني مستهدف، (مبنية على مخرجات أبحاث وتطوير، أو ابتكار، أو براءة اختراع).
- استشارات فنية أو إدارية أو قانونية.
- تعليم وتدريب (مهني أو فني أو إداري).
- حاضنة أعمال تقنية.
- خدمات تجارية أخرى كالمطاعم وفروع بنوك.
- الخدمات التي تقدمها مناطق التقنية
تقدم مناطق التقنية عدة خدمات أساسية للمنشآت التي تقطنها مثل:
- مكاتب أو مساحات أراضي جاهزة للإيجار أو البيع.
- مختبرات ومعامل مفتوحة متخصصة.
- خدمات استشارية (قانونية وإدارية وفنية).
- خدمات تواصل مثل قاعات المؤتمرات والتدريب.
- مركز معلومات متخصص.
- تنسيق خدمات التدريب.
- تنسيق خدمات التمويل.
4. الواحات العلمية الافتراضية:
تعتمد الواحات العلمية الافتراضية Virtual Science Parks على استخدام وسائل الاتصال الحديثة، مثل الانترنت والندوات التي تعقد عن بعد Teleconference Teletraining، كوسيلة تلاحم بين الجامعة ومؤسسات الأعمال، وهذا النوع من الواحات لا يقام على مواقع محددة، وقد انتشر هذا النوع من الواحات مؤخرًا، حيث تقدم الجامعات خبراتها للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم مباشرة، عبر وسائل الاتصال المتاحة، والبعض لا يدخلها في عداد الواحات العلمية.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه، وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال والمقال، كما هي الحال في دورة الدهور والأزمان وتجدد الأفراح والأحزان. وكما قيل فالتاريخ يعيد نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]