أكد الإسلام على حتمية القيادة كضرورة اجتماعية. يقول النبي صل الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم»، ويقول صل الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم». وقد علق الإمام (الشوكاني) على هذين الحديثين قائلاً:
إن فيهما دليلاً على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة، فصاعداً أن يؤمروا عليهم أحدهم؛ لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى الاختلاف، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون. ويستطرد فيقول: وإذا شُرِع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون، فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار، ويحتاجون لدفع المظالم أولى وأجدى.
ومن أهم السمات القيادية التي عرفتها الإدارة في عهد الرسول صل الله عليه وسلم القدوة الحسنة، والإخاء، والبر والرحمة، والإيثار.
- فالقدوة الحسنة، تعني أن يكون القائد قدوة حسنة لغيره فكراً وسلوكاً، ولكي يكون كذلك فكراً ينبغي أن يكون على علم بكل دقائق العمل، ولكي يكون قدوة في سلوكه ينبغي أن يكون عالماً حكيماً صبوراً حليماً، يجيب سائلهم، ويهتم بأمورهم، ويعطف عليهم، ويسأل عنهم ولا يعبس ولا ينفر، وأن يكون صادقاً أميناً عادلاً وقوراً. وهكذا كان رسول الله صل الله عليه وسلم فقد اجتمعت فيه هذه الصفات القيادية، فكان صل الله عليه وسلم حسن الإصغاء إلى من يحدثه، وقدوة لمن جاء بعده أيضاً من الخلفاء.
- والإخاء، يقتضي التآلف والتعاون وحسن الرعاية والعمل في سبيل رفعة الآخرين. ومن الأخوة أن يشعر القائد الإداري أنه أخ لمن يعمل معه، وواجبات الأخوة توجب عليه النصح لمن معه لقول النبي صل الله عليه وسلم: «ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة.»
- والبر والرحمة، صفتان من شأنهما – إذا توافرت في القائد – جذب القلوب وتأليف النفوس ومحو كل أثر للحقد والعداوة. ومن رحمة القائد أن يعلم من يعملون معه ما يقدرون عليه مما ينفعهم ويأخذ بهم عن اللمم إلى سبيل النفع الأعم، ويعمل لعزهم ودفع المذلة عنهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره، وهذا من كمال الخلق، بل من كمال الإيمان. يقول صلى الله عليه وسلم: «أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً».
- والإيثار، صفة قيادية مهمة من شأنها ربط القلوب والحث على التفاني في العمل، وتقديم الإنسان لأخيه عن رضا ما هو في حاجة إليه. ولم يعرف تاريخ البشرية إيثاراً كإيثار النبي صل الله عليه وسلم وأصحابه (إيثار الأنصار للمهاجرين) من مثال هذا الحب الكريم والبذل السخي، والمشاركة الرضية، والتسابق إلى الإطعام والإيواء، واحتمال الأعباء.
واتسمت الإدارة في هذا العهد النبوي والخلفاء من بعده بالبساطة، حيث كان تعيين القيادات الإدارية يقوم على الاستيثاق من مقدرة ونزاهة واستقامة الولاة، بالإضافة إلى تمتعهم بالخلق القويم وسعة العلم والجدارة. فقد كان الرسول صل الله عليه وسلم يتحر عماله من صالحي الصحابة، ويختارهم ممن يحسنون العمل، وكان يتابع حسن تنفيذهم لأعمالهم، ويسمع ما ينقل إليه من أخبارهم. فقد عزل (العلاء بن الحضرمي) عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد القيس شكاه وولى (أبان بن سعد) وقال له: (استوص بعبد القيس خيراً وأكرم سراتهم). وكان يحث أولي الأمر على أن يولوا على أعمال المسلمين أصلح من يجدونه لذلك العمل، حيث أثر عن النبي صل الله عليه وسلم في حديث ذي معاني عميقة ومهيبة قوله: «من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» واختيار الأصلح كما يقول أبن تيمية يكون باختيار الأمثل في كل منصب بحسبه. ويعرف الأمثل بقوته (المادية والمعنوية) وأمانته. قال تعالى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). والقوة في الحكم بين الناس بالعدل والانصاف، والقدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله.
وكانت مهام الولاة – من حيث هم قادة إداريون – تستهدف إشباع حاجات موظفيهم. يقول صل الله عليه وسلم: «من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، وليس له زوجة فليتزوج، أو ليس له دابة فليتخذ دابة». فقد راعى عليه الصلاة السلام في إعطاء الأجر للموظف تأمين نفقاته وعائلته. وكان النبي صل الله عليه وسلم يحث الموظفين والعمال على حسن الأداء. ففي الحديث: «إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن». وطبقت الإدارة في هذه الفترة أيضا، مبدأ الأجر على قدر العمل، فذلك تطبيقا لأحكام الآية الكريمة: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الأحقاف: 19. كما تميزت القيادة في هذه الفترة بأنها كانت تقوم على مبدأ الشورى الذي يعد من أهم مقومات القيادة الإدارية في الإسلام، فقد جاء النص القرآني الكريم بوجوب الشورى في أساس الحكم وفي فروعه، قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38). فقد طبق الرسول صل الله عليه وسلم الأسلوب الاستشاري في قيادته لشؤون الدولة، فكان يستشر أهل الرأي والبصيرة ومن شهد لهم بالعقل والفضل. والسنة العملية مليئة بالشواهد التي تدل على أن النبي صل الله عليه وسلم كان دائم التشاور مع أصحابه، يكره الاستبداد بالرأي، وكثيراً ما نزل عند حكمهم. فقد استشارهم في اختيار المكان الذي ينزل فيه المسلمون يوم بدر، وأخذ برأي الحباب بن منذر، واستشارهم فيما يعمل بشأن من أسروا في تلك الموقعة، فوافق على رأي أبي بكر الذي أشار بالفداء، وكذلك قبوله صل الله عليه وسلم لرأي الكثرة حين أشارت بالخروج يوم أحد.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه، وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال والمقال، كما هي الحال في دورة الدهور والأزمان وتجدد الأفراح والأحزان. وكما قيل فالتاريخ يعيد نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]