لا شك إن مصطلح البيروقراطية الذي طالما رددناه لوصف الجمود الإداري والمركزية المعقدة في العمل إنما يشير إلى أحد مدارس التنظيم الإداري العتيدة التي نشأت في أوائل القرن العشرين عندما كانت دول أوروبا ترزح تحت سيطرة الإقطاعيين الذين سخروا البشر لخدمتهم بالظلم والاضطهاد، فكان لعلماء السلوك والاجتماع مساهمتهم البارزة لإنهاء هذا التسلط وابتكروا نظرياتهم المبدعة لتنظيم العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، وتحديد المسئوليات، وبيان أنظمة سير العمل، وتحديد الأجور العادلة والمتساوية بين العمال. فنشأت حينذاك نظرية التنظيم، واتضحت معالم البيروقراطية الحميدة وسمي حينها العالم الألماني ماكس ويبر، أبرز المساهمين في إعدادها، “بأبي البيروقراطية”.
ومع انتقال الأنظمة والإجراءات والقوانين الإدارية لعالمنا العربي انتقلت البيروقراطية لتساهم في بناء الهياكل الإدارية، والمؤسسات العامة، وتحديد الهرم الوظيفي، وتقسيم العمل وفق التخصص، والاختيار وفق الكفاءة والتأهيل. ورغم ما قدمته هذه النظرية من خدمات جليلة للعالم بأسره إلا أنها كباقي الأنظمة البشرية التي يعتريها النقص والقصور ولا يمكن أن تصلح لكل زمان ومكان. فقد أدت البيروقراطية دورها في الماضي وبدأت بعد مرور الزمن تظهر عيوبها ومثالبها وعدم ملاءمتها للتوجهات الحديثة في الإدارة والتنظيم، وأخذت بعض النظريات الأخرى تحل محلها وتستأثر بموقعها في التنظيمات الإدارية العامة والخاصة.
وعندما ندرك نحن أننا في القرن الحادي والعشرين 2010 وما يصاحبه من تحديات اقتصادية، وثورة تكنولوجية، وانفتاح عالمي، يجدر بنا أن نقف وقفة جادة لإعادة النظر فيما خلفته البيروقراطية من تبعات أصبحت في كثير من الأحيان عائقاً أساسياً للنمو والتطور وإسراع عجلة التنمية. وقد استبشر المهتمون بقرار إنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى الذي من شأنه أن يتجاوز الإجراءات البيروقراطية، والهيكلية الراسية، والقرار البطيء إلى قرارات أكثر نضجاً، وأبعد نظراً، وأشمل مجالاً، وأسرع تطبيقاً مما لو كانت تحت سقف جهاز واحد تعيقه كثير من الإجراءات البيروقراطية. هذه الخطوة الموفقة دعت كثيراً من رجال الإدارة إلى الدعوة إلى علاج طويل الأجل يتمثل في تبني الأجهزة العامة لمفاهيم الإدارة الحديثة والتخلص من تبعات وتعقيدات البيروقراطية التي استشرت في أجهزتها المختلفة.
وإذا كانت خطط التنمية تؤكد على دعم القطاع الخاص وإتاحة الفرصة له للمساهمة الفاعلة في الناتج القومي فإن ذلك لن يتحقق إلا حينما يتزامن معه الدعوة إلى تطوير الأجهزة الإدارية في المؤسسات العامة. إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى مؤسسات تتبنى “الإدارة المتحررة” من الهرم المركز والهيكلية المعقدة في اتخاذ القرار، وتدرك هاجس السرعة، وتدعو إلى الإبداع والتجديد. ومؤسسات تحرص على تبسيط إجراءات العمل، وتعي أن الموظف إنما وجد لخدمة المستفيد، وهو الغاية المراد إرضاؤه وأن الأنظمة واللوائح والإجراءات ماهي إلا وسائل لتحقيق ذلك. كما أننا في حاجة إلى مؤسسات تسخر التقنية الحديثة لمتطلبات العملية الإدارية وفعاليتها، ومؤسسات تشرك كافة الموظفين في المناقشة العامة وخطط الجهاز وصناعة القرار وسبل التغيير الكفيلة بنجاحه وتطوره.
وإذا كان تبني هذا التوجه الحديث وتطبيقه واقعياً مطلباً ملحاً في جميع المؤسسات العامة فإنه سيكون أكثر ضرورة في تلك الأجهزة التي لها علاقة مباشرة في نمو القطاع الخاص وتنمية الاستثمار. فتتغير النظرة التي يسودها مبدأ الرقابة والمسائلة إلى مبدأ الشراكة، والحرص على تذليل المصاعب والمعوقات، وتقليل الضغوط الإجرائية والقانونية، واستبدالها بالتشجيع والدعم والترحيب.
وعندما تقل ضغوط البيروقراطية والروتين على المصالح المعنية يسود مبدأ المنافسة على خدمة المستثمرين، ونرى حينها أمثلة مشابهة لتلك الترحيبات الحارة والاحتفالات والتكريم التي يلقاها المستثمر في الغرب من قبل المدينة بمجرد أن يعزم على إقامة مشروع استثماري، وتزداد المنافسة المدعومة بتقديم كافة التسهيلات كي يقوم مشروع ما في مدينة دون أخرى.
إن الأنظمة البيروقراطية التي بنيت على أساسها هياكل العديد من المؤسسات العامة، لم تعد تملك السرعة الكافية والمرونة اللازمة لمتطلبات العصر، ويبقى دور رجال الإدارة وعلمائها للأخذ بزمام المبادرة لعرض نموذج حديث يكفل لنا ملاحقة التغيرات العالمية السريعة، ولعل الحديث عن ذلك أول الخطوات.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب وقد أبى الله أن يكمل كتاب إلا كتابه. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه ولا يتناسب مع الحاضر والمستقبل أو ربما وفق المقال أن يعبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]