أضحى الحديث عن العولمة حديثا عالمياً وهماً عاماً لمختلف الفئات والتوجهات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية. وأخذ الجدل في فوائدها وتهديداتها مساراً لم يحسب مهندسوها له حساباً إلى الحد الذي جعل من الشعوب التي وضعت اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة من أجل أعينها ترفض بعض مبادئها وقوانينها. ولم تعد الاطروحات في سلبياتها و إيجابياتها ضربا من الترف الفكري بل أصبحت أمرا واقعا لا محالة يفرض نفسه وفق التغيرات البيئية العالمية والتقارب والانفتاح والتقدم التكنولوجي المتسارع.
وعالمنا العربي لم يكن استثناءً من ذلك فقد انقسم المتحاورون والمحللون إلى اتجاهين على طرفي نقيض فأما الفئة الأولى فترى أن العولمة شر محض وخطر داهم ينبغي مجابهته والتصدي له و رفضه و وضع العراقيل والمعوقات لقبوله و انتشاره، و يؤيد طرحهم هذا منبع العولمة و أساس مصدرها. فمفهوم العولمة Globalization إنما هو تأصيل لنموذج القدوة الواحدة المتمثلة في التجربة الأمريكية التي استطاعت أن تجمع الأعراق والثقافات المختلفة في كيان وطني واحد تذوب كل أهدافه وغاياته لتحقيق العدل و المساواة والحرية للجميع. و من منطلق الشعور بالسيادة و العلو أصبحت الكينونة مجالا متاحا لسيادة هذه المفاهيم سلماً بعد أن عجزت محاولات الحروب الساخنة و الباردة لتعميمها على شعوب العالم قسرا.
و يعزز هذا التوجه سقوط الأيدلوجيات المناهضة للرأسمالية و انهيارها في أضيق الحدود التطبيقية فكانت الفرصة أعظم لنظام يمكن قبوله في الشرق و الغرب. فالاقتصاديون يعلمون أثر ثقل الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي فالأسهم الأمريكية مثلا تحتل أكثر من نصف الرسملة العالمية و تمثل أوروبا كلها أقل من الثلث و تقتسم باقي أسواق العالم ما لايزيد عن 6% فقط. كما أن الولايات المتحدة وحدها تسيطر على 65% من المادة الإعلامية العالمية. وتشير الإحصاءات إلى أن حجم مبيعات ثلاث شركات متعددة الجنسيات (إكسون، شل، موبيل) في عام 1980 فاق حجم الناتج المحلي الإجمالي لكل دول العالم الثالث ما عدا سبع دول، و هناك 172 شركة من أصل أكبر 2200 شركة في العالم هي شركات تنتمي لخمس دول أهمها الولايات المتحدة الأمريكية بينما ترزح تحت وطأة الديون دول العالم الثالث و منها الدول العربية التي بلغت ديونها الخارجية عام 1995م 250 مليار دولار و تزيد ديونها 50 ألف دولار في الدقيقة الواحدة. فلا غرو والحالة هذه أن يخشى المناهضون اطروحات العولمة و نظامها.
أما المؤيدون فيرون في التشابه العالمي، و التوحد في الهياكل الاقتصادية، و سهولة الاتصالات، و ارتباط الاستثمارات بعضها ببعض، واندماج المصالح، إيجابيات كبيرة لا حصر لها منها دعم التخصص في الإنتاج فتلك الدول التي تمتلك ميزة نسبية في سلعة أو خدمة ما تستطيع بعد فتح الأسواق و إزالة العراقيل أن تغزو أسواق الشرق و الغرب بفضل ما تملكه من ميزة لا يملكها غيرها. كما يستبشر المؤيدون للعولمة بقدومها أملا في فتح الأسواق للمستثمر الأجنبي في الدول النامية مما سيزيد من المدخرات و يحد من البطالة و يزيد من فرص العمل و يساهم في نقل التقنية الصناعية ويعزز تنمية وتدريب المهارات و الكفاءات و ينتج الأفكار الإدارية المميزة.
و الحق أن العولمة ليست وليدة هذه الحقبة الزمنية القصيرة بل هي قديمة منذ أن نظّر آدم سميث أفكاره الاقتصادية لتحلم الولايات المتحدة في نشر مبادئها على بقاع الأرض كصورة محسنة للاستعمار القصري البائد. حيث سيتحول ولأول مرة عبر التاريخ النشاط الاقتصادي لدولة ما من كونه شأن وطني محض إلى أنه نشاط دولي وعالمي له قيود تلزم العضو نفسه وتحد من تصرفاته في حدود سيادته. كما ستسعى العولمة لنشر الثقافة الواحدة واللغة الواحدة والعملة الواحدة والقيم الواحدة التي عبر عنها بيل كلنتون بالقول “إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا إلتزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا”.
بقي أن نقرر أن العولمة تيار قادم لا محالة و نموذج مسيطر سيلقى بظلاله على باقي الأنظمة في العالم. وأن رؤيتنا لها كفرصة أو تهديد لن يحجب تأثيرها علينا نحن المنتمون إلى منظومة تلتصق جنبا إلى جنب في حلقة النظام الكوني الكبير، لذا فإن نظرتنا لها كتحد بدلا من كونها فرصاً أو تهديدات أكثر واقعية من الاستغراق في الجدل فيما إذا كانت فرصة أو تهديد. وهذه النظرة تقتضي حينذاك إنشاء وحدات عمل ولجان وطنية متخصصة كتلك التي تعنى بالتعليم أو تلك التي تعنى بالسياحة والسعودة لتوعية وتأهيل المؤسسات الوطنية لمواجهة الانفتاح الاقتصادي المرتقب، ولعل مجلس الغرف التجارية الصناعية أو بعض الغرف الرائدة في طرح البرامج التنموية هي الأحرى بهذه المبادرات الوطنية الملحة. وإذا كانت غرفة الرياض مثلاً قد بدأت بالفعل بافتتاح مركز يعنى بقضايا العولمة فإننا لا نزال بحاجة إلى الأنشطة التوعوية المكثفة للمنشآت الصغيرة والتي تعنى بإيضاح سبل المواجهة الفعلية المعتمدة على التخطيط الفعال للمستقبل القريب وكيفية تحقيق التميز النسبي والجودة الشاملة لمواجهة المنافسة المقبلة الحادة.
حينها يمكن أن نتدارك التأخير الكبير لاستجابتنا للمتغيرات البيئية المتسارعة التي أخذت تسيطر علينا بتبعاتها ونحن لا نزال نشخص كنهها ومصدرها. بل أن تلك النظرة الواقعية عندما تصبح محور اهتمامنا ومدار ندواتنا ستكون دافعاً لطرح الأفكار الإبداعية وتبني الأبحاث التطبيقية والبرامج العملية الكفيلة باستغلال ما ستأتي به العولمة من إيجابيات ليست كثيرة وتجاوز ما ستفرزه من سلبيات ليست قليلة.
د. أحمد بن عبدالرحمن الشميمري
إدارة أعمال – جامعة الملك سعود فرع القصيم
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه، وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال والمقال، كما هي الحال في دورة الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected]