التفوق الصناعي حلم كل وطن وأمنية كل دولة تسعى إلى الوقوف في مصاف الدول المتقدمة تقاسمها المصالح وتشاطرها الأدوار والمسئوليات. وهذا التفوق المنشود لا يتهيأ هكذا بمحض الصدفة أو بتغير الظروف. ولكن بالتخطيط السليم والعمل الدؤوب الجاد لتحقيق الأهداف الإجرائية والمرحلية المؤدية إليه في المستقبل الواعد الذي يقترب زمانه كلما زادت فعالية العمل وكفاءة الإنتاج.
ومن تلك الدول التي غدت مثاراً للإعجاب وحقلاً للدراسات والتحليل دولة اليابان التي حققت في زمن قصير ما عجزت عنه الأمم المعاصرة عبر قرون. وقد أكدت إحدى الدراسات المتخصصة بعد دراسة عميقة للتطور الصناعي في اليابان أن ذلك قد تحقق لها بتوفر ثلاثة أضلاع لمثلث التفوق الصناعي هي البحث العلمي، والترجمة، والجودة.
فأما البحث العلمي فاليابان ومنذ زمن بعيد تفاخر وتتفاخر بمدينة البحث العلمي، تلك المدينة التي أنشأت من أجل الرقي بالصناعات اليابانية والتطور في اقتصاد البلاد. فمنذ إنشاء المدينة عام 1963م وهي تجتذب العلماء والباحثين حتى أصبحت مأوى لأكثر من 11 ألف باحث في شتى المجالات. ولم تكن مجرد مسمى بل توفرت فيها كافة الإمكانات المادية والمعنوية لدعم العلماء لأداء مهامهم بكفاءة وفعالية. فأصبحت مدينة توسوكوبا مدينة الباحثين والعلماء والمبتكرين والمخترعين، وموطناً لبنوك المعلومات والبيانات والإحصاءات عن كل ما يتعلق بالبلاد. وبلغت نسبة حجم الإنفاق على البحث والتطوير حوالي 2.89% من إجمالي الدخل القومي، ويزيد الإنفاق السنوي عن 134 بليون دولار سنوياً. وحسب تقرير اليونسكو فإن نسبة العاملين في البحث العلمي والتقنية والتطوير والابتكار في اليابان بلغت 85.5% من إجمالي السكان.
أما الضلع الثاني فكان الاهتمام بالترجمة، فأنشأت اليابان مؤسسات خاصة للترجمة تقوم بترجمة كل ما يصدر في دور النشر العالمية من كتب وأبحاث ودراسات ومقالات ومواد مسموعة ومرئية إلى اللغة اليابانية. وأقبلت اليابان على الحضارة الغربية كتلميذ لا كزبون – كما هي حال العالم العربي- وشجعت المؤسسات الخاصة ودور النشر والطباعة والإنتاج الوطنية على التنافس في تقديم كل جديد باللغة المحلية، حتى لا تكاد تصدر معلومة أياً كانت هيئتها وطبيعتها إلا وقد انتشرت في أسواق اليابان.
ولم يقتصر الأمر على الترجمة الحرفية والنقل المباشر بل تجاوزه إلى تطويع المواد والنصوص والأفكار لتتلاءم مع البيئة اليابانية وخصوصيتها الثقافية. كما تضمن مشروع الترجمة بمفهومه الشامل العمل على النقل والمحاكاة وتقليد الأساليب والابتكارات والصناعات والتقنية ثم تحويرها وتطويرها بما يتناسب مع المجتمعات والأسواق المستهدفة.
أما ثالث الأضلاع فقد كان الاهتمام بالجودة بمفهومها الواسع ليشمل الجودة النوعية للمنتجات والجودة الإدارية للأنظمة والإجراءات واتخاذ القرارات. فبدأت اليابان تسعى إلى التفرد بالجودة والتميز بالفعالية والريادة بالكفاءة. وأخذت على عاتقها نشر الوعي بأهمية الجودة في شتى القطاعات، وحملت على أكتافها تعميق مفهوم السعي إلى الجودة في سلوك الفرد بدافع الولاء الوطني للمجتمع إلى واقع عملي في الممارسات اليابانية. وغدت أفكار أومايا ونظام كيزن للتحسين المستمر واقعاً عملياً لا اطروحات نظرية للاستهلاك الفلسفي.
وبالفعل فقد تحقق لليابان ما أرادت فأصبحت تلك الدولة محدودة الموارد في مصاف الدول الأولى صناعياً. تنتج صناعة تقدمت عبر زمن قصير على أجود المنتجات العالمية العريقة. وأصبحت منتجات اليابان من الجودة بمكان بحيث لا يجاريها الآن إلا القليل. كما أن الإجراءات الإدارية اليابانية اتسمت باعتناقها لمفهوم الجودة بالوضوح والشفافية والثبات لتصل إلى مستوى يؤهل كل فرد في المجتمع الوصول إلى غايته ومراده عبر إجراءات شفافة يتساوى أمامها الجميع.
اليابان لم تأتي بشيء خرافي بل أكدت أن العنصر البشري بالعزيمة والتخطيط والتنظيم والاستمرارية قادر على تحقيق الريادة والتميز والرقي بالأوطان. وما تحقق عبر هذه الأضلاع الثلاثة يمكن أن يتحقق في بيئتنا المحلية عبر مراجعة متأنية لجوهر هذه الأضلاع لا رسمها.