رأيت في إحدى الجامعات أحد أعضاء هيئة التدريس يبحث عن ممحاة (مسّاحة) في قاعة المحاضرات لمسح السبورة، فما كان منه إلا أن اتجه إلى القسم بحثاً عن واحدة بعد أن باءت محاولات الاستعارة من القاعات الأخرى بالفشل. وعند وصوله إلى القسم لم يمهله السكرتير للحديث وقص القصة، حتى بادره بالاعتذار بأن صرف العُهد قد انتهى بسبب الميزانية ويمكن مراجعة المستودعات المركزية في الشئون العاجلة، فانطلق إلى المستودعات المركزية فوجدها مغلقة بحجة انهماك الموظفين بالجرد السنوي الذي سيستغرق عشرة أيام. فما كان من الأستاذ الجامعي إلا أن يلجأ إلى عميد الكلية لشرح معاناته مع الممحاة!. وبعد شرح وتشكي رد عليه العميد ببرود ” أنت تعرف أن هذه فترة التصفية وليست الاعتمادات! وعلى كل حال لا بأس يا أخي أن تمسح بيدك! ” … ومنذ ذلك الحين وزميلنا يعاني من فوبيا الميزانية.
في كل عام وقبل أشهر تستنفر الجهود في أغلب مؤسسات الدولة للتعامل مع الميزانية وكأنها تتعامل مع تلك الميزانية لأول مرة، فترى في تلك الأيام ما يدعو إلى الاستغراب والشفقة في آن واحد. فيظهر للمعايش بجلاء انعدام التخطيط، وفقدان التوازن، وعشوائية الصرف والتصفية العاجلة. وفي كثير من الأحيان يظهر بخل المؤسسات على نفسها وربما حرمان الآخرين الخير تدثراً وتصنعاً لحرصهم على المال العام. وكأن عودة المال إلى وزارة المالية مرة يعتبر إنجازاً يدل على النزاهة وحفظ المال العام. ولا غرو والمالية لا تضع معايير صارمة تحاسب المسئول المتسبب في حرمان الخير للمواطنين. وتجد مسئولاً آخر يتعذر بالظروف الطارئة في اللحظات الأخيرة فيستمر بالتقتير حتى آخر لحظة ليعكس جهله المدقع في مفهوم التخطيط المالي الغائب عن معظم مؤسسات الوطن. ولكم رأينا مؤسسات عطلت مخصصاتها وأخرى فشلت في إحداث التوازن بين بنودها فلجأت للمناقلة الخفية كحل إسعافي.
لقد أصبح التعلق والارتباط بالميزانية من جوانب إدارية ومالية واجتماعية وثقافية ارتباطاً وثيقاً في حياتنا. يبدأ هذا الارتباط عند البعض قبل أشهر من إعلانها والبعض الآخر قبل أيام وربما لفئة أخرى بعد إعلانها بأيام. ولا غضاضة في هذا الاهتمام، أما أن تكون الميزانية ذريعة يستخدمها المسئول كلما أراد إجهاض مشروع أو تأجيل قرار أو وأد مقترح أو تعطيل حق فهذا أمر غير مقبول. ومن هنا سادت فوبيا الميزانية بين أصحاب الحقوق المغلوبين من عامة طبقات المجتمع الكبير.
فكم من صاحب مال قد عطلت أمواله بسبب الميزانية، وكم من صاحب مستحق أجلت مستحقاته بعذر الميزانية، وكم من منتظر لمساعدة أوقفت انتظاراً للميزانية، وكم من متشفق لإحسان قطع من أجل الميزانية، وكم من منتظر لقرار تبخر بفعل الميزانية، وكم من متطلع لموقف ُنسي من طول انتظار الميزانية، وكم من طامح للوفاء بوعد أخلفته الميزانية. وكم ومن آملٍ بأداء عهد نكثته الميزانية. هكذا وأكثر كان من الميزانية … ولكم أن تتخيلوا كم من المسئولين قد أصابه هذا الداء، ثم يسمونها ميزانية الخير !!”