في بداية هذا العقد الميلادي اجتمع أكثر من 100 عالماً في مجال التسويق في العاصمة البريطانية لندن للتباحث حول المقولة الشهيرة التي أطلقها عالم التسويق ريتشارد فورسيث Richard Forsyth وتنبأت (بموت التسويق). وأخذ الحاضرون يتحاورون بقلق عن مستقبل التسويق وماذا سيؤول إليه مصيره؟
ومما أثار إعجابي وتقدير الحضور الشديد أن الملتقى بدأ باستفتاء كانت نتيجته أن 48% من الحضور يعتقدون أن التسويق لم يعد أسلوباً عملياً، في حين يعارض هذه المقولة حوالي 52% من الحضور، مما يعكس عمق القلق حول مستقبل التسويق. حينذاك ظهرت في أدبيات التسويق العديد من الأطروحات النظرية المحكمة والنقاشات الجدلية المكثفة التي تباينت في الآراء الفكرية عما يمكن أن يكون عليه التسويق في المستقبل. وقام ريتشارد بارلو Richard Barlow وروك هارستنك Rok Hrastnik وغيرهما بالتنبؤ بالمتغيرات البيئية التي يجب أن يتغير معها علم التسويق وتطبيقاته حتى يضمن لنفسه البقاء.
وإجمالاً، فإن أدبيات هذا الموضوع الذي كان مجالاً خصباً للنشر في بدايات هذا العقد وسيكون كذلك في نهايته، ركزت على خمسة توجهات أساسية لابد من الاهتمام بها كي يبقى التسويق على قيد الحياة.
أولاً: التطور التقني المتسارع
يعد التطور التقني من أكثر العوامل المؤثرة على طبيعة الأعمال التجارية والمبادلات الاقتصادية، وانسياب السلع والخدمات من المنتجين إلى المستهلكين. ومن تلك المتغيرات التقنية التطور الكبير في استخدامات الحاسب الآلي في تطوير أنظمة البرامج التحليلية والتنظيمية والتشغيلية الفعالة وانتشار استخدام قواعد البيانات التفاعلية، والزيادة المطردة في خدمات الاتصالات الفضائية والنقالة والجوالة المختلفة، وأدى التطور الهائل في التقنية إلى ظهور وسائل وطرق معرفية تحولت إلى ثورة معلوماتية خلقت للمستهلك الوعي المعرفي الناضج الذي تطور إلى حد التعقيد المركب. هذه التقنية الحديثة ما لم يستغلها التسويقيون بابتكار أساليب متوافقة معها فسوف تكون القيادة بأيدي المهندسين والفنيين ولا مكان للتسويقيين بينهم. فعلى سبيل المثال لم يعد الإعلان في جهاز التليفزيون التقليدي الثابت مناسباً للتليفزيون المستقبلي المتحرك والتفاعلي في الوقت نفسه، كما أن الاقتصار على المتاجر التقليدية والبيع المباشر لم يعد كافياً للعميل مع التطور الاتصالي الكبير الممكن من خلال شبكة الإنترنت.
ثانياً: التوجه نحو التسويق بالاستئذان ( Permission Marketing)
يمتلك التسويقيون اليوم معلومات ثرية وإمكانات تقنية كبيرة لإدارة البيانات وتخزينها والقدرة على تخزين واسترجاع ملايين المعلومات في وقت قياسي. وأدت هذه الإمكانات إلى قدرة المنشآت على التصنيف الدقيق والتعديل المتقن لملفات العملاء الحاليين والمرتقبين وفق معايير تصنيفية مختلفة ومتنوعة.
وقد ظهرت جراء ذلك أصوات مرتفعة ذات تأثير قوي مدعمة بالتنظيمات الرسمية والترتيبات الذاتية لصناع التسويق تنادي بمفاهيم الخصوصية وأخلاقيات البيع والتعامل. وتطورت فيما بعد لتسمى لدى التسويقيين وخاصة متخصصي التسويق المباشر باسم “التسويق بالاستئذان” ( Permission Marketing) وهو استسماح الزبون قبل اختراق خصوصيته أو إرسال رسائل بريدية أو إلكترونية إلى عنوانه، أو قبل التواصل معه عبر وسائل الاتصال الهاتفية أو التقليدية. وسيكون هذا التوجه سائداً في عالم التسويق تدعمه بقوة جمعيات حقوق المستهلكين ويعززه بثبات انتشار مفهوم المسئولية الاجتماعية بين الشركات. وقد استحسنت كثير من الشركات في وقتنا الحاضر هذا الأسلوب لما له من فوائد إجابية بعيدة المدى. فهو يساهم بفعالية في ترشيد الانحراف العالمي للرسائل الإعلانية والترويجية، كما أنه يعزز في الوقت نفسه أسلوب الطلبات المصنعة بحسب الحاجة الفردية للزبون دون التضحية باقتصاديات الحجم لمصدر الرسائل التسويقية. كما أن السماح من قبل الزبون يزيد من فعالية التصنيف ودقة الاستهداف ويشجع الشركات على استخدام قدر أكبر من الرسائل التسويقية الموجهة لذات العميل.
ثالثاً: احتلال موقع أساسي في الهياكل التنظيمية والمستويات الإدارية
لقد أشارت الاحصاءات العلمية أن التسويق أصبح يحتل مكانة كبيرة في الهياكل التنظيمية في الشركات في دول العالم المتقدم. حيث تولي الشركات الكبرى وتخصص له ميزانيات عالية تصل إلى ما يزيد عن 50% من ميزانياتها. وقد أدركت الشركات الواعية أن التسويق يجب أن يبدأ قبل التفكير في خلق السلعة أو تقديم الخدمة كما أنه يتحلق حول المنتج بشكل دائري مستمر منه تتم التغذية الراجعة ومن خلاله يتم التقويم والمراجعة وإليه تعود المدخلات من جديد. وستكون خطط نمو الشركات وتطورها وتصميم استراتيجيات المنشآت ورسم مستقبلها متوجة بالتسويق. ولن يقتصر الحال على الشركات الربحية بل ستتوجه المنظمات الخيرية والدوائر الحكومية إلى الاهتمام بالتسويق إلى الحد الذي سيجعل مفاهيم إدارة العلاقات العامة والنشر تتمركز في مكانها الافتراضي ضمن مظلة أساليب الترويج الخمسة في علم التسويق.
رابعاً: التوجه نحو مفهوم الفردية
من أبرز العوامل التي يمكن أن ينظر إليها كمعزز للتسويق هو التوجه العالمي وازدياد الوعي الاجتماعي لدى المنشآت التجارية نحو”خدمة العميل”. فالمنشآت التجارية تسعى الآن إلى أن تكون قريبة جدا من العميل لفهمه وتلبية احتياجاته وضمان استمرار العلاقة معه بعد الشراء. وهذا التوجه أخذ ينـمو في الأســواق الـعـالــمية وســيـزيد نـمـوا بـســبـب الانــفـتاح الاقـتـصـادي مـما سيجعل المنشآت تشعر بالأهمية البالغة لما يسمى بالتوجه نحو العميل (Customer Orientation) وتبني سياسات التوجه التسويقي (Marketing Orintation) الداعية إلى جعل الأقسام التسويقية أساسا لوضع الخطط الاستراتيجية للمنشآت.
كما أن التعقيد المتنامي لمتطلبات العميل أصبح ينحى منحى الفردية. فالزبون لم يعد يرضيه النمطية في التعامل والمنتجات والخدمات، فهو في حاجة إلى من يوجد اتصال شخصي منفرد معه، ويصمم خدمة خاصة به، وسلعة مناسبة لذوقه ومطلبه. هذا التوجه دعمه التسويق المباشر الذي ألغى الوسطاء والموزعين ليتواصل مباشرة مع الزبون عبر وسائل الاتصال الحديثة والتي على رأسها الانترنت، كما سيعززه التوجه المتنامي نحو برامج منح ومكافآت تكرار الشراء وبرامج أندية الزبائن التي بدت تتعامل بكل فردية مع كل زبون.
خامساً: التحول إلى الأساليب الترويجية التعليمية
تتوجه الشركات العالمية الآن إلى ما يسمى بالأساليب الترويجية التعليمية التي تتضمن معلومة راشدة تفيد المشتري لاتخاذ القرار، أو تتضمن توجيهاً أو توعية أو تثقيفاً بالسلع والخدمات تتجاوز الدعوة المباشرة للشراء وتبتعد عن إثارة الرغبات النفسية والغرائز البشرية للدفع إلى الشراء والتملك. هذا التوجه الرشيد سيكون سمة للتسويق في المستقبل وسيعزز من هذا التوجه تطور التقنية الحديثة وتوافر المعلومات وكثرة الخيارات وتنوع المعروضات ونضج المستهلكين ووعي المتسوقين. كما أن الانفتاح العالمي سيدعو تلك الشركات إلى العقلانية ويخضعها للمقارنة وستكون المعلومة وحدها هي المحرك الحقيقي لاتخاذ القرار. فلم تعد الأساليب التسويقية المعتمدة على خلق الحاجة وإثارة الدافعية العاطفية كافية في حد ذاته لإقناع المشتري، فسيقدر المشتري من يقدم له معلومة ويعلمه أسلوباً أفضل في المعيشة ويضيف له قيمة من قيم الحياة.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه، وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال والمقال، كما حال في دورة الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected]