العمل الجزئي في مواجهة البطالة | Part-time work in the face of unemployment

العمل الجزئي في مواجهة البطالة | Part-time work in the face of unemployment

تاريخ النشر: 23 مايو، 2021

لقد مرت المملكة عبر فترة وجيزة من الزمن بمتغيرات اجتماعية واقتصادية مختلفة أثرت كثيراً على معادلة العرض والطلب في سوق العمل وكانت من السرعة بمكان بحيث يصعب التجاوب معها بنفس سرعة تغيرها. ومن تلك التغيرات تسارع النمو السكاني حيث تزيد هذه النسبة عن 3,5 % مقارنة بالنمو الاقتصادي. ومنها أيضاً أن هذا التزايد السكاني يتميز بالأغلبية الشابة حيث يشكل من هم دون 15 سنة نحو 43,7% من التركيبة السكانية. فأصبحت هذه الأعداد المتدفقة التي تدخل سوق العمل سنوياً  تشكل عبئاً كبيراً على المجتمع وتحد صعب يواجه صناع القرار.

ووفقاً لتقرير حديث أعده أحد البنوك المحلية عن حجم البطالة في المملكة فإن من بين كل ثلاثة يتقدمون لسوق العمل الآن يتمكن واحد منهم فقط من الحصول على وظيفة، كما يؤكد التقرير أيضاً أن ما بين 15 و 20 في المائة من الشباب السعودي بين 20 و 29 عاماً لا يجدون عملاً.

ومن هنا فقد أصبح التفكير في التغلب على هذه الظاهرة قبل تفاقمها وتقليل آثارها قبل استشرائها هاجساً يقلق المجتمع وأفراده كما يفرض على المخططين للمستقبل البحث والتحري والاستفادة من تجارب السابقين من الدول المتقدمة في كيفية التغلب على هذه الظواهر. ومن تلك التجارب الرائدة التي ساهمت في تقليل هذه الفجوة بين العرض والطلب في سوق العمل مع مراعاة الظروف الثقافية للعمالة تلك التجربة المميزة التي انتهجتها هولندا ووفرت “وظيفة لكل مواطن” وأصبحت مثالاً يحتذى لباقي دول العالم.

إن تجربة هولندا الناجحة التي لم تكن ضرباً من الخيال ولا رواية من الأساطير بل  كل ما في الأمر أن هولندا اعتمدت في تنظيم العمالة الوطنية لديها على نظام “العمل الجزئي” – أو ما نطلق عليه نحن بنظام  نصف الدوام أو نظام الساعات أحياناً – حتى بلغت نسبة العاملين وفق هذا النظام ما يزيد عن 29% من مجموع القوى الوطنية العاملة، و بذلك حققت هولندا أعلى نسبة توظيف بطريقة العمل الجزئي في العالم بل أن هذا المعدل يعتبر ضعف المعدل العالمي الذي لم يتجاوز 14,4% عام 1997م، مما دفع وزير شئون العمل في ألمانيا أن يصرح قائلاً “علينا جميعاً أن نتعلم من هولندا”. وأصبحت هذه التجربة يطلق عليها في أوروبا “النموذج الهولندي” “Dutch Model  “.

و هولندا في حقيقة الأمر تملك اقتصادا يعد من أقوى اقتصاديات دول أوروبا من حيث الإنتاجية و قلة البطالة. و لكن الذي حدا بهذه الدولة اللجوء إلى هذا النظام عدة ظروف ربما كانت مشابهة جدا لما نمر به من ظروف. ففي هولندا تعتبر العائلة و المسئولية العائلية من أساسيات الثقافة و العادات لديهم و لذلك فإن الموظف هناك يحتاج إلى مزيد من الوقت لمراعاة احتياجات عائلته و ذويه و ارتباطات أقاربه و ما يستجد لديهم من مناسبات و اجتماعات و لقاءات. كما أن العاملين هناك يستأذنون دوما، و ربما يتغيبون أحيانا سعيا للتفرغ لتلك المسؤوليات و الارتباطات العائلية و بالتالي فقد خلقت هذه السلوكيات بطالة مقنعة و موظفين في أماكن العمل بلا عمل أو إنتاج حقيقي فعال، و وظائف تشغل من قبل عاملين لا يشعرون إلا بالملل و الخمول و التذمر، فضلا عن عما واجهته هولندا من مطالبات و ضغوط من قبل نقابات العمال التي تشتكي من قلة الأجور و زيادة البطالة.

و عندما طبقت هولندا  فكرة نظام العمل الجزئي بحيث تقل عدد ساعات العمل في عدد من الوظائف و يزيد عدد الموظفين و يتهيأ للعاملين المزيد من الوقت لقضاء حوائجهم و التفرغ لمتطلبات ذويهم، ارتفع مستوى الإنتاجية، و انخفضت نسبة البطالة و زاد حماس المواطنين لأعمالهم و وظائفهم. و قد أيدت هذه الفكرة دراسات علمية أثبتت أن نسبة الإنتاجية لدى العاملين في العمل الجزئي تزيد 40% عن إنتاجية العاملين كامل الدوام. و أصبحت تجربة هولندا النموذج المحتذى من قبل عدد من دول أوروبا الأخرى. ففي بريطانيا مثالاً ارتفع عدد العاملين بهذا النظام من الرجال حوالي 55% ما بين عام 1985 وعام 1995 وتشير الإحصاءات إلى أن واحد من بين كل أربعة يعملون في بريطانيا يعمل بنظام العمل الجزئي، وبنهاية عام 2000 يتوقع أن تبلغ النسبة إلى 1 إلى 3 أي أن ثلث العاملين في بريطانيا يعملون وفق هذا النظام. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد بلغت نسبة العاملين وفق هذا النظام إلى حوالي الخمس (18.3%) حتى عام 1997.

و في حقيقة الأمر فإن العمل الجزئي يعد طريقة من الطرق الفعالة لتحقيق عدة أهداف استراتيجية تعين على زيادة فرص العمل للمواطنين و تعزيز فرص مساهمة العمالة في الناتج القومي و فوائد عديدة أخرى منها:

  1. إن الحلول الشاملة التي تسعى خطط التنمية إلى الأخذ بها تحتاج إلى وقت طويل لتطبيقها و جني ثمارها فالمشكلة كما ذكر سابقا أصبحت من السرعة بمكان بحيث يصعب تدارك حلولها على الأمد القصير فضلا عن أن تداخل المشكلة و تعدد أبعادها يجعل من الجزم بحل واحد أمراً مستبعدا. و لذا فإن اللجوء إلى نظام العمل الجزئي في القطاع الخاص و العام ربما ساعد كثيرا على تقليل حجم الفجوة في الأمد القصير، بل و ربما كان من أحد الاستراتيجيات الموفقة على الأمد الطويل كما تحقق ذلك لهولندا.
  2.  إن هذا النظام سوف يتيح لكثير من الشباب فرص الانخراط في سوق العمل و الحصول على وظيفة كمصدر رزق تكفل له الاعتماد على نفسه، و الشعور بالأمان و التخلص من الضغوط النفسية و الاجتماعية التي يشعر بها كل عاطل.
  3.  يساعد العمل الجزئي على تخفيف أثر النظرة السلبية لبعض الأعمال المهنية. فمن العوائق الأساسية التي تجعل العمالة الوطنية تحجم عن الوظائف المهنية تلك النظرة الدونية التي يعتقدها بعض أفراد المجتمع لمن يمتهن تلك الوظائف. في حين أن العمل الجزئي يقلل من هذه النظرة حيث أنه مجرد عمل وقتي ربما يسعى الموظف من خلاله إلى التدريب و اكتساب الخبرة لتقلد مهام و أعمال مستقبلية أكثر قبولا.
  4.  يساهم العمل الجزئي في تقليل ظواهر البطالة المقنعة حيث يقضي الموظف جزءً من وقت الدوام في انشغالات لا تمت للعمل بصلة كالقراءة ، و السواليف، و الاستئذان المستمر، و ضياع الوقت في الزيارات المتبادلة و المتكررة بين أقسام المنشأة. في حين أن العمل الجزئي وقت الدوام فيه قصير لا يتيح للموظف متسعا للانصراف من العمل و قضاء أوقات الفراغ بما لا يخدم الهدف الإنتاجي.
  5.  يتيح العمل الجزئي للموظف الجديد أو للشاب المتخرج فرصة للتدريب و التأقلم مع ظروف و متطلبات العمل و تقلد المهام و الشعور بالمسئولية و اختيار العمل المرغوب كهواية باعتباره عملا جزئيا. و ربما قاده هذا التدريب إلى التخصص في هذا العمل و الإبداع فيه و من ثم الاعتماد عليه كعمل أساسي. و قد رأينا أمثلة واقعية لمن امتهن العمل الجزئي في بعض الوظائف مثل مكاتب العقار و بعض شركات الخدمات و محلات التجزئة و سرعان ما أصبحوا من أصحاب رؤوس الأموال الذين يساهمون في انتعاش الاقتصاد المحلي بشكل فعال.
  6.  يساهم العمل الجزئي في تطوير مهارات الموظفين و تحسين مستواهم الوظيفي حيث يلجأ الموظفون عادة في دول أوروبا إلى العمل الجزئي لتحسين مستواهم المهاري في جانب من الجوانب التي يشعرون بأهميتها و ارتباطها بعملهم الحالي.
  7.  يعطي العمل الجزئي المرونة المناسبة للعاملين في قطاع الخدمات كالاستشارات والتدريب والتقنية بحيث يمكنهم استغلال قدراتهم وخبراتهم في أكثر من موقع، كما سيكون فرصة سانحة للمتقاعدين للمساهمة في سوق العمل.
  8. إن نظام العمل الجزئي يناسب كثيراً المرأة السعودية يوفر لها فرصة العمل في ظل محدودية المجالات الوظيفية المتاحة. فالبطالة في العنصر النسائي في المملكة كبيرة جداً، ولا تساهم المرأة في القطاع الخاص إلا بقدر يسير من العمالة، في حين أن المهيئات لدخول سوق العمل في تزايد مستمر ولن يتمكن القطاع الخاص وفق المعطيات الحالية سد الفجوة بين العرض والطلب فقد أوضح تقرير حديث للغرفة التجارية الصناعية بالرياض أن عدد السعوديات العاملات بلغ عام 99م حوالي 215.6 ألف موظفة وهو مايشكل 5.8% من إجمالي عدد الإناث في سن العمل واللاتي يزيد عددهن المتحفظ عن 4.7 مليون نسمة.
  9. إن من الأسباب الداعية للتفكير في هذا النظام للمرأة أن الوظائف المتاحة والمرتقبة في القطاع الخاص على وجه الخصوص لا تتناسب مع وضع المرأة الاجتماعي والأسري. فيذكر التقرير السابق أن هناك حوالي 273.3 ألف وظيفة في القطاع الخاص مشغولة من قبل غير السعوديات إلا أن  حوالي 70% من تلك الوظائف هي في مجال خدمة المنازل. وهذا ما يعني قلة الفرص المرتقبة لعمل المرأة في المستقبل القريب وفق المعطيات الحالية.
  10. ومن جوانب مناسبة هذا النظام للمرأة أن يجعلها تتفرغ جزئياً لمهامها الأسرية المتشعبة والمسئوليات العائلية الكبيرة التي تفوق تلك التي يواجهها الرجل، خاصة تلك الأمهات اللاتي يشعرن بحجم التقصير الكبير عندما ينهمكن في عمل يتطلب دواماً كاملاً، فوفق الدراسات المحلية فإن 92% من الأمهات العاملات يؤكدن وجود آثار سلبية متعددة تتعلق بصحة الأطفال والزوج والأسرة بشكل عام. وتذكر دراسة أخرى أن من أهم العوائق التي تحول دون مساهمة المرأة في سوق العمل هو عدم مناسبة أنظمة العمل لها.وأضافت دراسة ميدانية أن 85% من العاملات لديهن غياب بدون عذر وأن من يكثر غيابهن بعذر يتكرر غيابهن بدون عذر مما يوحي أن الظروف الإجتماعية والمتطلبات الأسرية تستوجب من المرأة ذات الأطفال الغياب بعذر أو بدون عذر إذا استنفذت المسوغات النظامية.

 

وأخيراً فإن العمل وفق النظام الجزئي ليس طرحاً جديداً، فقد عرض من خلال النقاشات والحوارات والدراسات بشكل مستفيض، وقد تقدمت الرئاسة العامة لتعليم البنات بأوراق عمل عملية لتطبيق هذا النظام في حقل التعليم. لكن ضخامة الجهاز وكثرة أعبائه ربما أجهضت التطبيق. وما نتطلع إليه أن يتم تبني هذا النظام ودعمه التجريبي العلمي من قبل مجلس القوى العاملة والغرف التجارية الصناعية ومن ثم تقييم التجربة وفق برنامج زمني معلوم تكون نتائجه مبصرة لاتخاذ قرارات عليا لتبني هذا النظام في القطاعات العامة.

بقي أن نذكر أن هذا النظام له أيضاً سلبياته المتعددة والتي منها قلة ولاء العاملين بنظام العمل الجزئي للمنشأة التي يعملون لديها، وكذلك زيادة نسبة التسرب ودوران العمالة بسبب عدم شعورهم بالأمان الوظيفي، إلا أن هذه الانتقادات السلبية لا تطغى على الإيجابيات المتعددة التي يمكن جنيها من جراء دراسة وتطبيق هذا النظام بشكل أوسع وأشمل. وفي ظني أن المبادرة لخوض هذه التجربة بدقة وجدية ستكون خير برهان.

 

عناوين فرعية :

  • يساهم هذا النظام في تقليل ظواهر البطالة المقنعة، ويزيد من الإنتاجية.
  • المرأة العاملة سيكون لديها وقت أطول للوفاء بمسئولياتها العائلية.
  • القطاع الخاص مؤهل لتبني هذا النظام بطريقة علمية منظمة.

 

هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.

أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض   [email protected]  [email protected]