منذ العصور البدائية للحضارة الإنسانية والحروب تقوم بدوافع اقتصادية بحته، فالسيطرة على الثروات، وتملك المقاطاعات، والاستحواذ على منابع الماء، ومنابت الكلأ، ومنافذ الرزق والتجارة كانت ولا تزال أهدافاً أساسية لاندلاع الحروب، والكي بنيرانها المستعرة التي لا يطفؤها إلا نشوة السبي وجمع الغنائم وبيع الأسرى في أسواق الأرقاء. واليوم يعيد التاريخ نفسه، فالبرغم من دبلوماسية الأساليب، وحداثة الوسائل، وتقنية المعدات، وتعقد الآليات، ودقة الأسلحة وتطورها إلا أنها جميعها سخرت لنفس الأهداف البائدة منذ قرون. فها هي دول مجموعة السبع تتحفز في اجتماعاتها المتلاحقة لانتزاع لقمة شهية من فم الأسد الكاسر بعد أن أثقلتها تبعات الركود الاقتصادي، فدول أوروبا هذا العام لم يتجاوز نمو اقتصادها عن 1,1 بالمئة، أما اليابان فهي لا تزال تعيش فترة الركود التي تسودها منذ سنوات مما ترجم هذا العام بمعدل نمو لم يتجاوز 0,8 بالمئة. وفي المقابل فالإقتصاد الأمريكي يتوقع أن لا يزيد نموه هو الآخر إلا بنسبة 2,2 بالمئة في العام الحالي. ويعاني عجز أحدثته فاتورة هذه الحرب.
فالجميع يرى في نفط العراق وثرواته مخرجأ لسد عجز موازناتهم وانعاش اقتصادياتهم المنحدرة. وهاهما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يتحفزان للقيام بدور رائد في إعمار العراق والاستفادة من خيراته، فبدأ البنك الدولي يتحدث عن ضرورة تسديد المستحقات الدولية على العراق التي تتجاوز 82 مليون دولار. وأهمية إعداد برنامج للاستفادة من نفط العراق لدعم الاقتصاد العالمي وإنعاشه!
أما أمريكا التي وضعت خطة محددة للأدوار في طريقة الإعمار بين الدول العالمية وذلك بالطبع عبر الأمم المتحدة فقد بدأت أثناء الحرب بتشكيل لجنة من الخزانة الأمريكية لتنفيذ خطة الإعمار. باشرت هذه اللجنة عملها الأول بإرساء العقود لتأهيل آبار النفط لتكون قادرة على تحقيق عوائد تقدر بما قيمته 20 مليار دولار سنوياً من حوالي 3 ملايين برميل يومياً.
وبين هؤلاء الكبار لا تزال دول الجوار تتردد حول المساهمة في الإستثمار والإعمار في العراق. في حين أننا في السعودية تحديداً نملك المقومات الأساسية والآلات والمعدات والخبرات والتمويل والإمداد لكافة المشاريع المتنوعة. فقطاع واحد من قطاعات الإستثمار مثل قطاع البناء والتشييد لديه من المعدات الفائضة التي يملكها المقاولون السعوديون ما يقدر بحوالي 17 بليون ريال تنتظر الاستثمر وتتطلع للعمل. ونحن بحكم موقعنا الجغرافي أقرب الدول المؤهلة لإعمار العراق وبنوكنا من أكثر البنوك العربية استحواذاً على الودئع المجمدة التي لم تستثمر.
إنها فرصة سانحة ومناخ واعد يستدعي من جميع الجهات المعنية بالإستثمار المبادرة بالتخطيط المدروس واستخدام العلاقات التجارية والدبلوماسية مع الدول الكبرى للظفر والمشاركة بالإعمار. وواجب تلك الجهات كالغرف التجارية الصناعية والهيئات واللجان الاستثمارية والوزارية تنسيق الجهود العاجلة واستحداث اللجان الداعمة والمنسقة والمشجعة على الإعمار ولو كانت العقود الآنية صغيرة ومن الباطن.
إنه من المجحف على هذا البلد المعطاء والوطن الرائد أن يبقى مستحلباً من الآخرين، فيقتصر دوره على الإغاثة والمساعدات الإنسانية وإجزال الهبات والصدقات. نعم إن علينا دور إنساني وأخوي جليل، وواجب ديني عظيم يحثنا عليه اسلامنا وعقيدتنا السمحاء لا تلك الأدوار الدولية المفروضة، لكن يجب أيضاً أن نشارك تجارياً ونحن على ثقة ويقين أننا على الأمد البعيد الأكثر قبولاً من قبل أشقائنا العراقيين والأكثر ترحيباً مقارنة بالأجنبي صاحب المصالح ذات الجانب الأحادي.
إن نظرة التفاؤل إلى العراق بقيام نظامه الانفتاحي الجديد سوف تجعله أرضاً تنبعث فيها الإستثمارات من جديد و ستتدفق من خلالها الثروات وستشهد في القريب العاجل عندما يحل الأمن والاستقرار ويريد الشعب طفرة اقتصادية كتلك التي مرت في دول الخليج من قبل. وسيكون لزاماً على القوات الأجنبية الحاكمة الالتفات إلى الإعمار لمسح ذنب الخطيئة أمام الشعب المتذمر.
ويبقى دورنا أن نكون من أوائل المبادرين للمساهمة في هذا الإعمار، وكما بدأنا منذ أيام بدورنا الإنساني والإغاثي المنظم عبر لجان محددة وأدوار مخططة وجهود منسقة، نريد أيضاً أن نرى مثلها تجارياً واستثمارياً في القريب العاجل.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]