مع بداية العام الدراسي الجديد ستنضم إلى كوكبة مؤسسات التعليم العالي ثلاث جامعات جديدة ليصبح لدينا إحدى عشر جامعة تتوزع في مناطق المملكة المختلفة و تقدم مع نظيراتها خدماتها التعليمية الجليلة. وهذه الجامعات المستحدثة ليست وليدة القرار بل كل منها يمثل صرحاً علمياً متكاملاً لم يكن ينقصه سوى هذا القرار الذي طالما انتظرته هذه المناطق منذ سنوات. وهذه الجامعات المبنية على فروع سابقة توفر لها بذلك مجمل سبل التميز والتطور والنمو. فهي تملك بنى تحتية وكفاءات بشرية ومخصصات مالية وخبرة متراكمة عبر عمرها الأكاديمي السابق، وهي مهيأة أن تنهض بالتعليم العالي في تلك المناطق لتؤدي الدور المناط بها بكفاءة وفعالية. فأما جامعة الإمام محمد بن سعود فقد ميزت فروعها بالعلم الشرعي الأصيل وتأهيل الكفاءات العلمية الشرعية المتمكنة وإتاحة الفرصة للشباب الواعد الواعي للإبتعاث والتأهل بالعلم الحديث والتسلح بالإدراك الواسع والرؤية الشمولية. وميزت جامعة الملك عبدالعزيز فروعها بالتنوع وتلمس حاجات المناطق وفق ما تتطلبه التنمية عبر العقود المختلفة، وسعت لتميزها واستقلالها بالقدر المتاح من اللامركزية. وأما جامعة الملك سعود فلم تألو جهداً في بناء صرح متكامل البنية ومتماسك البناء تهيأت له أسباب التطور والنماء. ولم تبخل عبر عقدين من الزمن من جعل الفرع انموذجاً يحاكي الأصل في الإمكانات والفرص والمشاريع. وسعت بقدر المستطاع أن توفي بمجمل الخطط والبرامج الموضوعة لتجعل من الفرع جامعة بالفعل لها وزنها العلمي والأكاديمي والاجتماعي المرموق بين المؤسسات التعليمية في هذا الوطن . وكل منصف يتتبع مسيرة تلك الفروع يشهد تلك الرعاية المبنية على الولاء أولاً للوطن ثم للمؤسسات التعليمية المنفردة، وبهذه الروح بنيت تلك الفروع، وبهذه الروح لا غيرها ستزدهر وتنمو مسيرة الجامعات الجديدة وتتجاوز التحديات وإرهاصات الاندماج وصراعات الغلبة وتعدد الرؤى والأفكار.
وفي المقابل فإن هذه الجامعات الجديدة ستواجه تحديين اثنين هما من أصعب ما ستواجهه في مستقبلها القريب وسيخيم ظلال هذين التحديين على مستقبلها البعيد وربما أطر حدودها وشكل هويتها ورسم صورها الذهنية من حيث تدري أو لا تدري. هذان التحديان هما كيفية التعامل مع الدمج بين الفروع، ووضوح رؤية الجامعة وتحديد أهدافها.
وفي ظني أن التحدي الأول سيكون في عرف الإداريين هو العمل من خلال المربع الأول في مصفوفة الأولويات، ذلك المربع العاجل الهام الذي يتطلب التركيز الشديد والاهتمام البالغ كطارئ لا بد من تجاوزه حتى تستطيع السفينة أن تبحر بسلام. ولدينا في هذا المقام تجربتين سابقتين أحدهما إنشاء جامعة أم القرى بعد أن كانت فرعاً لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وتحويل فرع جامعة الملك سعود وفرع جامعة الإمام محمد بن سعود بأبها إلى جامعة الملك خالد. وهاتان التجربتان غنيتان بالدروس والعبر والمواقف والإرهاصات الجديرة بالمراجعة والتأمل. وظني أن من أولى مهام مدراء الجامعات الجدد تشكيل لجان متخصصة للوقوف على تلك التجارب ودراستها والاستفادة منها. هذا بالإضافة إلى الرصيد الخبراتي المتراكم لدى المسئولين في وزارة التعليم العالي الذي يمكن من خلاله تأطير المعالجة وتعميمها على ما يتناسب مع متغيرات كل منطقة وحالة. والحلول المحددة وفق السياسات الواضحة والأحكام العادلة والإجراءات المعلنة والحاسمة هي التي ستتيح لتلك الجامعات الخروج من نفق الصراعات الطافي على السطح أحياناً والمختفي تحت جنبات النفوس أحياناً كثيرة. كما أنها ستخرج الجامعة من عنق الزجاجة ، وتنقذها من داء الانهماك في مضيعات الجهود وصوارف الوقت، وتكبيل القدرات وإنهاك الكفاءات و وئد الإبداعات إلى رحابة العمل والإنتاج في المربع الثاني من مربعات الأولويات في بناء الجامعات، وهنا يبرز دور القادة الذين نحتاجهم في إدارة هذه الصروح التعليمية الواعدة.
أما التحدي الثاني وهو وضوح رؤية الجامعة وتحديد أهدافها فله أبعاد عديدة تتجاوز حدود المقال الصحفي المتواضع العابر إلى التخطيط الاستراتيجي القائم على خطوات وإجراءات وتوجهات مدروسة وموضوعة بعناية وتؤده. وما يلي إشارات أساسية للتفكير في معالم هذه الإستراتيجيات ومحدداتها:
1- إن أي منظمة لا تضع لها استراتيجية محددة ورؤية مستقبلية لدورها وأهدافها التي تريد أن تحققها في خدمة الوطن والمواطنين سيؤول مصيرها للتعثر وضياع الهوية والتوجه وتبقى تتجاذبها الظروف والمتغيرات. وقد آن الأوان أن تضع المؤسسات العامة وعلى رأسها الجامعات رؤيتها ورسالتها وأهدافها المستقبلية بوضوح والعمل وفق هذه الأهداف بدقة وتجرد. وقد يعجب المتابع عندما يعلم أن جامعة من جامعات بريطانيا بعد أن وضعت خطتها الاستراتيجية لمدة خمس سنوات وجندت إمكاناتها ورتبت أولوياتها وفق هذه الخطة قفزت من المرتبة الرابعة عشر إلى المرتبة الرابعة من بين 98 جامعة وفق تصنيف هيئة التصنيف الأكاديمي البريطاني وذلك خلال خمس سنوات فقط وأصبحت أكثر الجامعات جذباً على المستوى الأوربي ويتقدم لها وحدها 50.000 طلب التحاق سنوياً، علماً بأن تكلفة الدراسة فيها تزيد عن المتوسط الشائع بمراحل.
2- بعيداً عن الحديث عن اسم الجامعة الذي سيعكس بلا شك جزءً من الصورة الذهنية فإن التخطيط المبكر لرسم صورة ذهنية متميزة ومنافسة لكي تتبوأ الجامعة الجديدة مكانة مرموقة بين الجامعات لا أن تكون مجرد مؤسسة تعليمية أخرى هو مفتاح النجاح. وهذه الصورة لا تأتي بين يوم وليلة كما لا تأتي جزافاً بلا تخطيط. وعلى سبيل المثال كانت الصورة الذهنية لفرع جامعة الملك سعود بالقصيم في الماضي هي ” تميز في البحث العلمي في كلية الزراعة وريادة في الترجمة والتأليف في كلية الاقتصاد على مستوى العالم العربي وليس المحلي فقط “. أما الآن فقد خبت تلك الصورة وبهتت بعد أن اختلطت الأولويات. ولن يعيد ذلك التميز سوى التركيز المخطط لخدمة العلم والعلماء بما يتناسب مع طبيعة المنطقة. بل يمكن للجامعات رسم توجه معين يتأطر من خلاله دور المنطقة بأكملها في تنمية الوطن. فالقصيم على سبيل المثال يمكن أن تكون الرائدة الأولى في الوطن العربي في رعاية النخيل بحثاً ودراسة وعلماً وتجارباً وزراعة وتسويقاً وتجارة وتخصصاً. كما يمكن لجامعة الطائف أن تكون رائدة في السياحة الترويحية، أو الطب العلاجي، أو السياحة الصحية أو غيرها من المجالات.
3- إن بناء جامعة جديدة لا ينبغي أن يقوم على مبدأ الغلبة للنظام الأقوى أو المسيطر بحيث يكون استنساخاً للنظام الأصلي المرتكز على الولاء للمرجعية التاريخية، بل يجب أن يكون نظاماً مستقلاً يستفيد بكل تجرد من نظام الجامعتين يتبنى ايجابيات كل نظام ويتخلى عن سلبياته. أما التبني والاستنساخ فلن يضيف إلا صراعاً داخلياً يصعب تجاوز آثاره السلبية في مرحلة البناء. وبدلاً من تبني نظام معين على حساب نظام آخر يجب أن تنظر الجامعات الجديدة إلى الأنظمة المستحدثة في الجامعات المتقدمة والاستفادة من التحديث الكبير والأتمتة وتطور الأنظمة الإلكترونية الحديثة والنظم الأكاديمية الجديدة لديها. والخروج برؤية منفردة ومختلفة تتجاوز سلبيات الألفة والتشبث بالمألوف كنظام أجدى وأجدر إلى رحابة التجديد والتطوير. وهذا منال لا تدركه سوى العقول الطموحة للتفوق والإبداع.
4- إن الدمج في حد ذاته عملية أصعب وأشق من البناء من جديد فهناك أنساق متعددة من التيارات الأكاديمية والنظم المعرفية التي تشكلت عبر السنين والتي يصعب ذوبانها في نسق واحد بمجرد قرار إداري أياً كانت صفاته ومهما بلغ من براجماتية وتنازلات أملاً في إرضاء المعنيين والمتأثرين. فمجالاته المنظورة ستشمل أعضاء هيئة التدريس والهيكلة الجديدة والخطط الدراسية والمناصب الإدارية الجديدة والأنشطة الطلابية والأنظمة الجامعية برمتها، وتبقى تلك المجالات غير المنظورة من عقليات وقناعات يصعب التنازل عنها بسهولة. ولذلك فمن المهم التعامل مع هذا الاندماج وهذه الحقيقة ظاهرة على السطح لا إخفاءها تحت المعاطف الرسمية والتصريحات الاستهلاكية. وفي اعتقادي أن مشاركة أعضاء هيئة التدريس في وضع وبناء النظام حتى ولو طالت مدته وكثرت نقاشاته سيكون أحد السبل الأساسية لتجاوز الاستنساخ والتقليد.
5- الحرص في الهيكلة الجديدة على فتح تخصصات أكاديمية جديدة ودعم الأهم منها، فالمتغيرات الدولية القادمة تقتضي إحداث تخصصات فرعية جديدة تتواكب مع التغير الكبير وتتجاوب مع متطلبات المستقبل. ومن ذلك الالتفات إلى التخصصات الحيوية الحالية التي تحتاجها التنمية وتطويرها ودعمها بالوسائل والأجهزة الحديثة، والكفاءات البشرية اللازمة. فليس من الحكمة أن تظل مخرجات التعليم العالي النظرية تقارب 80% من مجموع المخرجات. في حين أن التخصصات الملحة والهامة تعاني من قلة الدعم والإمكانات وبالتالي قلة المخرجات وندرتها. والوقفة الجادة والحاسمة لابد أن تبدأ مع بداية هذه الجامعات، وفق تصنيف وتوزيع للإمكانات يتوافق مع هذه التوجهات.
6- دعم الكليات والأقسام بالكفاءات البشرية المميزة، ففي السابق كانت المملكة مليئة بالعلماء من العالم العربي في شتى التخصصات، أما الآن فإن الجامعات تستكثر دفع مخصصات منافسة لاستقطاب العلماء المتميزين، بل بدأت منذ زمن تعاني من تسرب كفاءاتها الوطنية المميزة التي لم تجد التحفيز الكافي للإبداع، وافتقدت الجامعات ذلك التميز العلمي السابق وأضحت العملية التعليمية واجب روتيني متكرر. والجامعات الجديدة أمامها الفرصة في استقطاب الكفاءات وتطوير المهارات الحالية وتقوية العملية التعليمية وتحفيز الأساتذة والموظفين. كما أن لديها فرصة سانحة في ترسيخ مبدأ الجودة النوعية والتقليل من التوسع الطلابي إلا في حدود النسب والمعدلات النوعية المقبولة المتناسبة مع الإمكانات البشرية والمكانية. وكل تجاوز عن هذه النسب سيكون على حساب الكيف المطلوب لبناء هذا الوطن بسواعد فاعلة ومتمكنة.
7- تبني التوسع في تعليم المرأة وفتح مجالات العلم والتخصصات المناسبة لها والمتوافقة مع دورها المستقبلي المنشود في المساهمة في عجلة التنمية وبناء الوطن. فالتعليم الجامعي للمرأة لا يزال يحاكي في مجمل تخصصاته تخصصات الرجل ويندر أن تتميز تخصصات نسائية أو مناهج وخطط مصممة لتأهيل المرأة بما يتوافق مع دورها المطلوب في خدمة التنمية. كما أن حظها من الاهتمام يقل في بعض الجامعات إلى الحد الذي ينظر إليه كعبء تتمنى الجامعات التخلص من تبعاته ومسئولياته. والجامعات الجديدة مهيأة أن تجعل تطور التعليم النسوي فيها مدروساُ بخطة واضحة لا مجرد ضغوط لحاجات ملحة تمتد بعشوائية وتتقاذفها المتغيرات الفكرية والإدارية بين مد وجزر. والتبني المنشود يجب أن يكون واضحاً وصريحاً ومنعكساً بالدعم الإداري والأكاديمي بجلاء.
8- دعم خطط وبرامج تغيير المناهج الدراسية في الجامعات، فمناهج أكثر الكليات قد عفا عليها الدهر أسلوباً في التدريس ومحتوى علمي، وأصبح تغييرها حاجة ملحة للتجاوب مع متطلبات العصر. ولا تزال الجامعات مترددة وتسير برامجها التطويرية ببطء شديد نظراً لطول الإجراءات وعدم حوافز للقائمين بهذه العلمية. ومن ذلك التطوير تغيير المقررات والكتب، وتبني مشاريع تأليف الكتب الجامعية الحديثة والمتمشية مع التسارع الكبير في العلوم والتقنية. ومن تلك التوجهات المأمولة في الجامعات الجديدة التوسع في برامج الدراسات العليا، وما يتطلب ذلك من توفير الإمكانات المادية والبشرية لهذا التوسع، فالسير الطبيعي للجامعات العريقة في المملكة أن تكون قد بلغت حداً كبيراً من النضج العلمي والكادر الأكاديمي بما يؤهلها لتقديم برامج عليا في تخصصات عديدة.
9- دعم مراكز المعلومات والمكتبات بالمطبوعات والدوريات والإصدارات كي تكون معينة لنمو الفكر ومكملة للدور التعليمي والنهج التربوي في البحث عن المعلومة وتقصيها. والرائي لمكتبات الجامعات يرى بوضوح قلة الإمكانات وندرة المعلومات الحديثة، وتكاد تكون في كثير من التصنيفات والأقسام كتب مكررة لا تخرج عن المعرفة العامة. ناهيك عن التخلف التقني في استكشاف المعلومة والحصول عليها. وعندما تنشأ جامعة في منطقة ما فلا أقل من أن تساهم في إنشاء مكتبة شاملة تكون المرجعية المستهدفة لكافة الباحثين والمثقفين في المنطقة.
10- دعم برامج خدمة المجتمع والتعاون والتنسيق مع القطاع الخاص فيما يخص التدريب والتوظيف والتدريب التعاوني وتحفيز وتشجيع أعضاء هيئة التدريس والطلاب على الإبداع والابتكار، وذلك حتى لا يقتصر التوسع على الكم الطلابي بل يركز ويهتم بالكيف الذي سوف يعد طالباً منتجاً ومؤهلاً ومعيناً على المساهمة في بناء الوطن لا عبئاً عليه والتوعية بحاجة التنمية للتخصصات والمجالات المطلوبة. وكذلك تحديث المناهج مدى مناسبتها لمتطلبات سوق العمل. فيكاد يجزم العارف بمدى هشاشة العلاقة بين الجامعات والقطاع الخاص أنه لم يسبق للجامعات عرض خططها التطويرية ومناهجها التعليمية على القطاع الخاص للاستنارة برأيه بمدى ملاءمتها لمتطلبات السوق. بل قد يصل التعالي إلى الحد الذي ينظر إلى الجامعة أنها صروح علمية جليلة لا علاقة لها بالوظيفة والكسب المادي النفعي!
11- السعي بأن تكون الجامعات الجديدة جامعات منتجة، ذلك التوجه الذي طالما دعا وزير التعليم العالي في محاضراته واطروحاته لكن الجامعات السعودية كلها لا تزال بعيدة كل البعد عن الحس الاستثماري المخطط كما أنها لم تستطع أن توازن بين إيراداتها ومصروفاتها التشغيلية السنوية المتزايدة، بالرغم مما تملكه من بنى أساسية قوية وإمكانات بشرية مؤهلة، وتجهيزات تقنية عالية، وخبرات وعقول رائدة في شتى المجالات. وهي تستطيع تنمية الاستثمار بطرق شتى لا حصر لها عندما تتعامل مع المجتمع بمفهوم الشراكة بمفهومها الواسع. ليس ذلك فحسب بل حينما يشعر المجتمع بهذه الشراكة ويتلمسها، فللجامعة أن تتوقع مصادر ثرية أخرى كالهبات والأوقاف والتبرعات المجزية.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]