تمثل المرحلة الراهنة من تطور الإدارة مزيجاً تراكمياً من الأفكار والمبادئ التي طرحتها مدارس الإدارة السابقة. فلا تزال أفكار المدرسة الكلاسيكية (التقليدية) المتمثلة في العقلانية والتأكيد على الجانب الاقتصادي ومبادئ العمل كما نادت به النظرية البيروقراطية ومدرسة الإدارة العلمية ماثلاً إلى هذا اليوم في كثر من ممارساتنا الإدارية في المنظمات الحديثة. من ناحية أخرى نجد أن فكرة الاهتمام بالإنسان والأخذ في الاعتبار احتياجاته ومشاعره في العمل كما نادت بذلك مدرسة العلاقات الإنسانية تجد مكانتها وتطبيقاتها في الممارسات الإدارية على نطاق واسع. إلى جانب ذلك نجد أن فكرة التأكيد على مهنية الإدارة من خلال التركيز على الجانب العلمي من الممارسة الإدارية أكثر من التركيز على الجانب النظري، كما نادت بذلك المدرسة التجريبية، يحظى بكثير من الاهتمام والقبول لدى كثير من المنظرين والممارسين في مجال الإدارة. وكما هو الحال بالنسبة لمفاهيم المدارس السابقة الثلاثة فإن المفاهيم الإدارية التي حملتها لنا مدرسة النظم الاجتماعية وبخاصة فيما يتصل بدراسة المنظمات باعتبارها وحدات اجتماعية ذات وظائف متعددة والنظر إليها باعتبارها نظاماً مفتوحاً يتأثر بالبيئة الخارجية من حولها لا تزال محل تقدير واهتمام من الباحثين والممارسين الإداريين.
على أنه ومع الإقرار بأهمية الأفكار التي تركتها لنا مدارس الإدارة السابقة إلا أنه يمكن القول بأن تطور المنظمات الإدارية الحديثة والتعقيد الذي تشهده الإدارة نتيجة للتنافس المحلي والعالمي الشديد على السلع والخدمات قد حفز كثيراً من الباحثين الإداريين إلى طرح عدد من النظريات والمداخل الجديدة في الإدارة.
من النظريات والمداخل الحديثة نذكر على سبيل المثال لا الحصر ستة مداخل أساسية هي: النموذج الياباني في الإدارة، ونظرية الثقافة التنظيمية، وإدارة الجودة الشاملة، وإعادة هندسة الإدارة، وإدارة المعرفة، وريادة الأعمال.
- النموذج الياباني في الإدارة:
يركز النموذج الياباني في الإدارة على جوانب من ممارسة الإدارة في اليابان والتي يمكن تطبيقها في مجتمعات أخرى خارج اليابان. لقد كان رائد هذا النموذج ويليام أوشي William Ouchi الذي قدم لنا نظرية (Z)– سنتطرق لها بالتفصيل في فصل الدافعية- التي يهدف من ورائها إلى استفادة الصناعة الأمريكية من التجارب اليابانية الإدارية الصناعية، مع الاحتفاظ بالقيم الأمريكية. لقد أكدت نظرية (Z) على عدة قضايا إدارية، منها: ضرورة الاهتمام بالعاملين من حيث الأمان الوظيفي ومشاركتهم في اتخاذ القرار والتأكيد على المسؤولية الجماعية في العمل، والاهتمام بالجودة وإيجاد سياسات واضحة فيما يتصل بالتطور الوظيفي للعاملين والتحكم في المعلومات، وإظهار مزيد من الاهتمام بالجوانب الإنسانية والقضايا الخاصة بالعمل بالنسبة للعاملين.
- نظرية الثقافة التنظيمية:
ظهرت نظرية الثقافة التنظيمية في الدراسات التنظيمية بصورة واضحة ومميزة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي. لقد حاول الكاتب شاين (1985)
- Schein باعتباره من رواد هذه النظرية أن يقدم لنا مفهوم الثقافة التنظيمية بصورة محددة ودقيقة، وذلك من خلال الإشارة إلى أن جوهر الثقافة يكمن في طبيعة القيم والمعتقدات والافتراضات المشتركة بين أعضاء منظمة ما. كما يرى أن دراسة الثقافة التنظيمية يجب أن تشمل ثلاثة جوانب رئيسة هي: الظواهر الملموسة، والقيم والافتراضات الأساسية لأعضاء المنظمة بشأن طبيعة الإنسان، والبيئة.
وفي الواقع إن مفهوم الثقافة التنظيمية يُعد اليوم مجالاً حياً للدراسة والبحث في عالم المنظمات، حيث إنه يلقى قبولاً عاماً من الباحثين والمجلات المتخصصة في الإدارة. فلقد أفردت كثير من المجلات الدورية أعداداً خاصة ناقشت فيها مفاهيم نظرية الثقافة من حيث أثرها على سلوك الأفراد وأداء المنظمات، فضلاً عن ذلك يُعد منظور الثقافة التنظيمية منهجاً جيداً في إدارة التغيير، وبخاصة عندما تعمل هذه المنظمات في بيئات غير مستقرة.
- إدارة الجودة الشاملة:
يعد مفهوم إدارة الجودة الشاملة Total Quality Management من المفاهيم الحديثة في الإدارة ليس في القطاع الخاص فقط بل والقطاع الحكومي على حد سواء. ويعد إدوارد ديمنج Deming Edwards من أبرز رواد هذا المفهوم وأهم منظريه. ولقد بدأ هذا المفهوم في اليابان بعد خروجها من الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، وأرادت أن تعيد بناء البلاد وتحسين صورتها بعد الهزيمة العسكرية، ودخول الأسواق العالمية. فاختارت الجودة استراتيجية لها واستعانت بعدد كبر من الخبراء والعلماء في هذا المجال، وكان منهم العالم الأمريكي إدوارد ديمنج. وبعد أن طبقت الشركات اليابانية مبادئ ديمنج على مدار سنوات عديدة تحسنت الجودة الإنتاجية والتنافسية اليابانية بصورة مذهلة. وانهالت المكافآت والجوائز والاستحقاقات التي نالها ديمنج في اليابان. وبعد ذلك انتشرت أفكار ديمنج في الولايات المتحدة وبقية أرجاء العالم.
ولقد أصبح مفهوم إدارة الجودة الشاملة محور الاهتمام في مجال الإدارة الحديثة بل يمكن القول: بأن إدارة الجودة الكلية تحظى اليوم باهتمام كبير في جميع أنحاء العالم بما فيه العالم العربي، حيث أوجدت كثير من المنظمات العربية لها وحدات إدارية خاصة بالجودة في هيكلها التنظيمي، كما أوجدت برامج تدريبية خاصة بنشر هذا المفهوم.
لقد أكد مفهوم إدارة الجودة الكلية على عدد من المتطلبات المهمة لضمان تحقيقها في منظمات الأعمال يمكن استخلاصها فيما يأتي:
- التزام الإدارة العليا بجعل الجودة في المقام الأول من اهتماماتها.
- التأكيد على أهمية دور العميل، أو المستفيد من الخدمة أو المنتج.
- العمل باستمرار من أجل تحسين العمليات والإجراءات.
- التركيز على الجودة في جميع مراحل تقديم الخدمة، وليس في آخر المراحل فقط.
- تأكيد وجوب التمييز بين جهود الفرد وجهود الجماعة.
- استخدام الأساليب الإحصائية لقياس الجودة.
- إشراك المستفيدين والعاملين في تطبيق مفهوم إدارة الجودة.
- هندسة الإدارة (الهندرة):
ظهر مفهوم إعادة هندسة الإدارة (إعادة هندسة الأعمال)، Business Reengineering وكما يحلو لبعضهم تسميته «إعادة هندسة نظم المعلومات» أو «الهندرة»، في عام 1990م على يد مايكل هامر M. Hammer في مقالته التي نشرت في دورية هارفرد بزنس ريفيو ثم انتشر هذا المفهوم بصورة سريعة في الأوساط الأكاديمية وفي قطاع الأعمال، باعتباره اتجاها جديداً في علم الإدارة يمكن أن يؤدي إلى تغيرات جذرية في أداء المؤسسات لتتناسب مع متطلبات هذا العصر.
و«الهندرة» كلمة عربية جديدة مركبة من كلمتي (هندسة) و (إدارة) وهي ترجمة للكلمتين الإنجليزيتين Business Reengineering أي إعادة هندسة الأعمال. هذا المفهوم الحديث يمكن تعريفه على أنه “وسيلة إدارية منهجية تقوم على إعادة البناء التنظيمي من جذوره، وتعتمد على إعادة هيكلة العمليات الأساسية وتصميمها بهدف تحقيق تطوير جوهري وطموح في أداء المنظمات بما يكفل سرعة الأداء وتخفيض التكلفة وجودة المنتج” ومن هذا المفهوم يمكن القول إن الهندرة تعد خطوة متقدمة جداً نحو تحقيق تحسينات جوهرية في معايير الأداء الحاسمة المتمثلة في الجودة والخدمة والسرعة، وتهدف إلى التركيز على الأنشطة والتمحور حول العميل وتوحيد الأعمال ودمجها، كما تهدف إلى التغيير الجذري في الأداء وتطوير بيئة الإدارة. وهناك عدد من الخصائص التي تميز مفهوم إدارة هندسة الإدارة عن غيره من المفاهيم السابقة، هذه الخصائص تتمثل أهمها فيما يأتي:
- إعادة التصميم الجذري للعمليات الإدارية.
- الاستخدام الضروري لتقنية المعلومات (IT) كمقوم ومساعد على مشروع إعادة هندسة الإدارة.
- التركيز على تحقيق الأهداف والنتائج الاستراتيجية.
- إدارة المعرفة والاقتصاد المعرفي :
برز الاتجاه نحو إدارة المعرفة في الكتابات الحديثة لعلماء الإدارة. ويعد العالم الياباني إيكوجيدو نوناكا (I. Nonaka) من رواد هذا الاتجاه، حيث لاقت دراسته المنشورة عام 1991م قبولاً واسعاً في أوساط الباحثين الإداريين. ووفق ما يرى أنصار هذا التوجه، فإن المعرفة هي المصدر الآخير للميزة التنافسية. فعندما تتطور الأسواق والتكنولوجيا يتكاثر المنافسون ويتزايدون، وتتقدم المنتجات سريعاً لكن تبقى المعرفة هي مجال الحسم. فالشركات الناجحة هي التي تعزز المعرفة وتنشرها على نطاق واسع في جميع أنحاء الشركة، وتجسدها بسرعة في تكنولوجيا ومنتجات جديدة.
كما يرى رواد هذا المفهوم أهمية بالغة للمعرفة تفوق باقي عوامل الإنتاج الأساسية (الأرض، والعمل، ورأس المال) وهي النوع الجديد من رأس المال الفكري الذي لا يخضع للتناقص والنضوب. وقد صنف ميشل زاك M. Zack المعرفة إلى ثلاثة مستويات، هي:
أولًا: المعرفة الجوهرية
وهي الحد الأدنى من المعرفة الذي يجب أن يكون موجوداً في الشركات للقيام بعملها، وهذا النوع من المعرفة لا يحقق ميزة تنافسية للشركات.
ثانيًا: المعرفة المتقدمة
وهي المعارف التي تجعل الشركة تتميز عن منافسيها. فربما كانت الشركة تملك المستوى نفسه من المعرفة لكن لديها القدرة على استخدام هذه المعرفة للتميز عن الآخرين.
ثالثًا: المعرفة الابتكارية
وهي المعرفة التي تمكن الشركة من أن تقود السوق وتكون رائدة الصناعة. وهذا النوع من المعرفة هو الذي يمكن الشركات من أن تكون قادرة على تغير قواعد اللعبة في مجال صناعتها.
من التوجه نحو إدارة المعرفة إلى اقتصاد المعرفة Knowledge-Based Economy الذي بدأ يتشكل بتسارع في نهاية القرن العشرين. فقد بدأ الاقتصاد العالمي يتبنى الاقتصاد المعرفي أساسا للمنافسة الدولية المستدامة. وأصبحت التكنولوجيا، والإبداع، والمعلومات، والابتكار، أدوات حاسمة في التقدم والنمو الاقتصادي المستديم. وقد استخدم مصطلحا اقتصاد المعرفة Knowledge-Based Economy ومصطلح مجتمع المعرفة Knowledge Society لأول مرة في كتابات رائد المدرسة المعاصرة في الإدارة (المدرسة التجريبية أيضاً) بيتر دراكر Peter Drucker 1969م في كتابه The Age of Discontinuity. ويدعو اقتصاد المعرفة أن تكون المعرفة هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي. وُيعرف الإداريون اقتصاد المعرفة بأنه «تحويل المعلومة إلى سلعة». وهو دمج للتكنولوجيا الحديثة في عناصر الإنتاج لتسهيل إنتاج السلع ومبادلة الخدمات بشكل ابسط وأسرع. وقد عرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الاقتصاد المعرفي بأنه «نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاية في جميع مجالات النشاط المجتمعي، والاقتصادي، والمجتمع المدني، والسياسة، والحياة الخاصة وصولاً لترقية الحالة الإنسانية باستدامة». وللاقتصاد المعرفي أربعة ركائز أساسية هي:
- الإبداع؛ القائم على نظام فعال يربط بين مؤسسات المجتمع التعليمية والتجارية.
- التعليم؛ المبني على بناء جيل قادر على دمج التكنولوجيا الحديثة في العمل.
- البنى التحتية الداعمة للتكنولوجيا والمعلومات والاتصالات التي تحدّث وتنمو باستمرار.
- توفر التشريعات والأنظمة والحوافز سواءً كانت من الدولة أو من القطاعات الخاصة.
6- ريادة الأعمال Entrepreneurship
ريادة الأعمال هي القوة الاقتصادية القادمة المحركة لاقتصاديات الدول. ونظراً لأدراك أهمية ريادة الأعمال فقد سارعت العديد من المجتمعات والدول في اتخاذ جميع السبل التي تساعد في تنمية هذا الفكر، حيث أوضحت الدراسات أن هناك علاقة جوهرية لإرساء الفكر الريادي والعديد من العوامل الخارجية كالعوامل الثقافية والاجتماعية والمؤسسية والتنظيمية والتعليمية. وكلمة Entrepreneurship هي في الأصل كلمة فرنسية تعني الشخص الذي يباشر أو يشرع في إنشاء عمل تجاري. ويرجع تعريف رائد الأعمال (Entrepreneur) إلى العالم الاقتصادي شومبيتر Schumpeter 1883–1950م إذ عرّف شومبيتر Schumpeter 1950م الريادي بأنه «ذلك الشخص الذي لديه الإرادة والقدرة لتحويل فكرة جديدة أو اختراع جديد إلى ابتكار ناجح». كما عرف الشميمري وآخرون 2010م ريادة الأعمال بأنها «إنشاء عمل حر يتصف بالإبداع ويتسم بالمخاطرة».
وقد تفرعت مجالات ريادة الأعمال لتشمل مفاهيم جديدة مثل ريادة الأعمال المؤسسية (Intrapreneurship) وهي كلمة بدأت بالمقطع Intra)) وتعني باللغة الإنجليزية Within)) أي داخل ومن هنا فإن المقصود بريادة الأعمال المؤسسية أن تكون ريادة أعمال من داخل المؤسسات القائمة. وقد ظهر مصطلح «رواد الأعمال المؤسسيين أو التنظيميين» في كتاب (Intrapreneur) لمؤلفه Pinchot 1985. وقد عرفها Hisrich and Peters (1998) بأنها «بث روح ريادة الأعمال داخل المؤسسات القائمة».
ومن المجالات الجديدة ريادة الأعمال الاجتماعية (Social Entrepreneurship) التي لا تركز على جني الأرباح وتكوين الثروة ولكنها تهدف إلى خدمة المجتمع والمصلحة العامة. وبهذا فان الغاية الرئيسية من ريادة الأعمال الاجتماعية هي تعزيز الأهداف الاجتماعية والبيئية. ومن أشهر رواد ريادة الأعمال الاجتماعية في عصرنا الحالي البروفيسور محمد يونس المؤسس لبنك جرامين حيث حاز على جائزة نوبل للسلام عام 2006م لمشروعه تمويل الفقراء. كما واكب الاهتمام برواد الأعمال انتشار حاضنات الأعمال والواحات العلمية وظهور رأس المال الجريء لدعم الابتكارات الجديدة والشركات الناشئة. وسيشهد العالم اهتماما أكبر بريادة الأعمال لكونها أحد الحلول المهمة لتوفير فرص العمل في المجتمعات، وهي الطريق المستقبلي لبلوغ اقتصاد المعرفة.
مما سبق نخلص إلى القول: إن الفكر الإداري لا يزال في تطور مستمر. هذا التطور يفرضه واقع منظمات الأعمال وما تعيشه من تعقيدات وطموحات تتعلق بمحاولة التوازن بين بقائها واستمرارها من جهة وتحقيق احتياجات ومتطلبات عملائها الداخلين والخارجين والبيئات التي تعمل فيها جهة أخرى.
إلى جانب ذلك فإن الفكر الإداري سوف يظل خاضعاً للتطوير في المستقبل طالما أن هناك كثيراً من المحركات والدوافع التي تدفع إلى هذا التطور التي من أبرزها حركة عولمة الأسواق ومطالب منظمة التجارة العالمية، وانفتاح الشعوب على بعضها بعضاً من خلال تطور تقنيات المعلومات وثورة الاتصالات.
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه، وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال والمقال، كما هي الحال في دورة الدهور والأزمان وتجدد الأفراح والأحزان. وكما قيل فالتاريخ يعيد نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]