إن النفس البشرية يعتريها الخطأ والنسيان، واتباع الشهوات والوقوع في الشبهات والزلل والانحراف عن الطريق المستقيم. ولذلك حذرنا المولى عز وجل من الوقوع في مزالق الانحراف واتباع الهوى وطريق الضلالة .
والوظيفة سواءً كانت عامة أو خاصة هي أمانة قد أؤتمن عليها المسلم، ووجب عليه أن يؤدي حقها ويراعي واجباتها، لكن الواقع المشهود لحال الناس يظهر التورع البسيط والاهتمام الضعيف بحقوق الوظيفة العامة والخاصة ، مما ينشأ معه أشكال الانحرافات المتعددة. وفي هذا المقال نلقي الضوء على أبرز الانحرافات التي يغفل عنها الموظفون ، وقد يقع في فخها الكثيرون جهلاً وغفلة واتباع هوى .
ما هو الانحراف الوظيفي ؟
يمكن تعريف الانحراف بأنه كل سلوك يترتب عليه انتهاك للقيم والمعايير التي تحكم سير المجتمع ، سواء كانت هذه القيم والمعايير معلومة أو غير معلومة , والفعل المنحرف يترتب عليه إلحاق الأذى والضرر بالآخرين وممتلكاتهم الخاصة والعامة .
ويتضح من هذا التعريف أن الانحراف الوظيفي قد يكون انتهاكاً للقوانين والقواعد واللوائح التي تحكم علاقة الأفراد بعضهم ببعض ، أو بعضهم بالمنشأة العامة أو الخاصة، أو يكون الانحراف انتهاكاً للعادات والقيم والتقاليد التي تحكم علاقة الأفراد بعضهم ببعض أو بعضهم بالـمنشأة أو البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد ذو السلوك المنحرف .
ويمكن أن تقسم مظاهر الانحراف إلى أربعة مظاهر هي : الانحرافات التنظيمية ، والانحرافات السلوكية ، والانحرافات المالية ، والانحرافات الجنائية . وسنستعرضها تباعاً فيما يلي :
المجموعة الأولى : الانحرافات التنظيمية :
يقصد بالانحرافات التنظيمية تلك المخالفات التي تصدر عن الموظف أثناء تأديته لمهام وظيفته والتي تتعلق بصفة أساسية بالعمل وانتظامه ، ومن أهمها :
1) عدم احترام وقت العمل :
هناك صور مختلفة لعدم احترام وقت العمل الرسمي للوظيفة في غالبية القطاعات منها نظرة الموظف الحكومي إلى الكم فهو ينظر دائماً إلى الزمن وكم قطع من الساعات وكم بقي له حتى يعود إلى منزله بصرف النظر عما قدمه من إنتاج أو عمل . أو بمعنى أن الموظف قد يتأخر في الحضور للعمل وقد يبكر في مغادرته ، وإذا كان هناك ضبط إداري شكلي فهو يأتي في الموعد وينصرف في الموعد الرسمي ، ولكنه لا يعمل ، فيكون قارئاً لجريدة ، أو مستقبلاً لزواره ، أو أنه ينتقل من مكتب إلى مكتب ، ومن إدارة إلى أخرى للحديث مع العاملين في مكان العمل لتبادل آخر الأخبار . وهذا ما يؤدي إلى عدم الالتزام بتأدية الأعمال أثناء ساعات العمل الرسمية ، والذي يترتب عليه انخفاض الإنتاج وتدهور مستوى الخدمات العامة .
2) امتناع الموظف عن أداء العمل المطلوب منه :
من أوضح صور امتناع الموظف عن أداء العمل المطلوب منه هو رفضه عن أداء العمل المكلف به من قبل رؤسائه ، أو الامتناع عن القيام بأعمال وظيفته أو مباشرتها على نحو غير صحيح أو التأخير في أدائها . ويمكن إرجاع أسباب انتشار هذه الظاهرة إلى انخفاض الأجور التي يحصلون عليها ، والتي لا تتناسب مع المجهود اللازم لإنجاز الأعمال المطلوبة منهم .
3) التراخي :
يميل معظم العاملين إلى التراخي والتكاسل ، ولا يحضهم على العمل إلا الحـافز المادي أو الصالح الشخصي من جهة أو الخوف من جهة أخرى . ولذلك فهم يستهدفون في عملهم بذل أقل جهد مقابل أكبر أجر ، أو على الأقل تنفيذ الحد الأدنى من متطلبات الوظيفة الذي يبعد الموظف عن حد الخطر وهو الفصل أو الإنذار أو الخصم المادي .
4) عدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء :
ترجع هذه الظاهرة نتيجة لبعض التصرفات التي قد يمارسها بعض الرؤساء على الموظفين ، مثل حرمان الموظف من علاوة أو مكافأة تشجيعية مثلاً ، أو تمييز في الترقيات والحوافز . وقد يؤدي ذلك إلى إصابة الموظف بالعدوانية تجاه رؤسائه وعدم إطاعة أوامرهم ، وعدم احترامهم والبحث عن المنافذ والأعذار لعدم تنفيذ أوامرهم والالتزام بتعليماتهم .
5) السلبية :
وهو جنوح الموظف إلى عدم إبداء الرأي واللامبالاة ، ولا يميل للتجديد والتطور والابتكار ، ويعزف عن المشاركة في اتخاذ القرارات ، الأمر الذي يصل بالموظف إلى حد القناعة بتلقي التعليمات من غيره دون مناقشة . ومن ذلك أيضاً الانعزالية ، وهي عدم رغبة بعض الموظفين في التعاون مع زملائهم في العمل ، وعدم تشجيعهم للعمل الجماعي ويتجنبون الاتصال بالأفراد الآخرين ، ولا يريد الفرد منهم الارتباط بأي شخص آخر.
6) عدم تحمل المسئولية :
قد يلجأ الموظف إلى محاولة تجنب المسئولية ويظهر ذلك من خلال تحويل الأوراق مـن مسـتوى إداري إلى مسـتوى أقـل أو العـكس للتهرب من الامضاءات والتوقيعات لعدم تحمل المسئولية . بجانب التفسير الضيق للقوانين والقواعد حتى لا يتحمل الموظف مسئولية أي اجتهاد أو تفكير إبداعي قد يترتب على ذلك استفادة عدد قليل من بعض هذه القوانين بجانب حصول الناس على أقل فائدة .
7) إفشاء أسرار العمل :
يقصد بهذه الظاهرة أن يقوم الموظف بإفشاء أسرار المنظمة أو الأسرار الخاصة بالأفراد المتصلين بالمنظمة سواء من الأفراد العاملين بها أو عملائها ، فيقوم الموظف بأن يطلع العمال على التقارير السرية التي كتبها الرؤساء بشأنهم . فهو بهذا العمل يفقد هذه التقارير سريتها ويزيد من درجة الاحتكاك والنزاع بين العامل ورئيسه بشأن ما كتب في هذه التقارير . أو يدلي بعض الموظفين ببيانات خاطئة أو غير متأكدة بصحتها إلى مندوبي وسائل الإعلام والتي قد يترتب عليها ضرر بالمنظمة أو قد يقوم أيضاً بعض موظفي البنوك بأن يصرح للغير برقم مدخرات أحد الأفراد ، أو معلوماته المالية الخاصة .
المجموعة الثانية : الانحرافات السلوكية :
ويقصد بالانحرافات السلوكية تلك المخالفات الإدارية التي يرتكبها الموظف العام وتتعلق بمسلكه الشخصي وتصرفه ، ومن أهمها :
1) عدم المحافظة على كرامة الوظيفة :
ومن هذه الأفعال على سبيل المثال ارتكاب الموظف لفعل فاضح مخل بالحياء في أماكن العمل أو خارج مكان العمل ، واستعمال المخدرات، أو الاستغلال أو التورط في جرائم شرفية .
2) سوء استعمال السلطة :
قد يترك الموظف شيء من الحرية في ممارسة سلطاته ليقرر اختياره ما يراه محققاً للصالح العام ، ويسمى ذلك بالسلطة التقديرية فإذا انحرف الموظف عن ممارسة هذه السلطة عن غاية المصلحة العامة وقام بالعمل تحقيقاً لباعث آخر كان تصرفه مشوباً بعيب الانحراف في استعمال السلطة . وقد يستغل هذه السلطات التقديرية لتحقيق مآرب شخصية لصاحبها على حساب المصلحة العامة . فقد يلجأ بعض الموظفين إلى إساءة استعمال السلطة في صورة تقديم الخدمات الشخصية وتسهيل الأمور وتجاوز اعتبارات العدالة الموضوعية في منح أقارب أو معارف المسئولين ما يطلب منهم من أجل احتفاظهم بمناصبهم ، فهو على استعداد لاتخاذ قرارات تعيين لمن هم أصحاب حظوة عند مسئول أكبر منهم ، أو يقوم المسئول باختيار الشخصية الضعيفة وليست القوية كمساعد أو نائب له حتى يمكن السيطرة عليه وبقائه في موقعه .
3) المحسوبية :
ويترتب على انتشار ظاهرة المحسوبية شغل الوظائف العامة بأشخـاص غـير مـؤهـلـين مما يـؤثـر عـلى انـخـفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج ، وهذا ما دفع بعض الدول إلى منع المحسوبية ووسائلها المختلفة في تشريعاتها الخاصة عند التعيين في الوظائف الحكومية وغيرها .
4) الوساطة :
يلجأ الموظف الإداري للوساطة في حالة الندب أو النقل أو الترقية أو العلاوة أو إرضاء رئيسه عليه في العمل . ويستخدم بعض العاملين الوساطة شكلاً من أشكال تبادل المصالح . وتعد هذه الظاهرة منتشرة في المجتمعات النامية ، وفي عادات بعض هذه المجتمعات تتفشى إلى الحد الذي تعتبر حقاً لطالبها ! ومن قصَّر في تقديمها كان مخروم المروءة !
المجموعة الثالثة : الانحرافات المالية :
ويقصد بالمخالفات المالية والإدارية التي تتصل بسير العمل المنوط بالموظف ، وتتمثل هذه المخالفات في :
1) مخالفة القواعد والأحكام المالية المنصوص عليها داخل المنظمة :
تحكم كل منظمة إدارية مجموعة من القواعد والأحكام المالية التي تتوافق مع طبيعة عملها , وتتفق مع القواعد والأحكام المالية التي نص عليها القانون ، وعندما يخل الموظف عن اتباع مثل هذه القواعد والأحكام المالية فإنه يكون بذلك ارتكب انحرافاً ويحاسب عليه إدارياً . مثال ذلك الأحكام المالية التي تنظم عمليات المخازن والمشتريات وقواعد المزايدات والمناقصات وترسية العقود وغيرها .
2) مخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية :
عندما يحدث عدم موافاة جهاز الرقابة المالية بالحسابات والمستندات الخاصة بالمنظمة أو عدم الرد على مناقصاته أو مكاتباته أو ما يطلبه من بيانات بدون مبرر أو عذر مقبول مما يعوق عمل هذا الجهاز ويؤثر على فاعليته . فإن هذا يعتبر انحرافاً إدارياً يرتكبه الموظف العام المسئول عن ذلك .
3) فرض المغارم :
وتعني قيام الموظف بتسخير سلطة وظيفته للانتفاع من الأعمال الموكولة إليه في فرض الإتاوة على بعض الأشخاص أو استخدام القوة البشرية الحكومية من العمال والموظفين في الأمور الشخصية في غير الأعمال الرسمية المخصصة لهم .
4) الإسراف في استخدام المال العام :
ويأخذ أشكالاً وصوراً مختلفة أكثرها انتشاراً اتجاه أغلب القائمين على الأجهزة إلى تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث والرواتب المدفوعة بلا عمل على حشد السكرتارية وأجهزة العلاقات العامة . فضلاً عن المبالغة في استخدام السيارات في الأغراض المنزلية والشخصية وإقامة الحفلات الترفيهية والإنفاق ببذخ على الدعاية والإعلان والنشر في الصحف والمجلات في مناسبات التهاني والتعازي والتأييد والتوديع لكبار المسئولين تملقاً ونفاقاً .
المجموعة الرابعة : الانحرافات الجنائية :
ومن أكثرها ما يلي :
1) الرشوة :
وهي داء ينتشر في كل المستويات الإدارية في القطاع العام والخاص ، مما يؤدي إلى الإخلال بهيبة الوظيفة ، وما يجب أن يتحلى به الأفراد من شعور بالهيبة والاحترام نحو الدولة . كما تؤدي الرشوة إلى إهدار مبدأ الخدمة العامة ونمو القطاع الخاص .
ونظراً لخطورة هذه الظاهرة فقد حرم الإسلام الرشوة ، فقال عز وجل ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقال تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً . وقد روي عن النبي أنه قال : ( لعن الله الراشي والمرتشي ) ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من شفع شفاعة ليرد بها حقاً ، أو يدفع بها ظلماً فأهدي له فقبل ، فذلك السحت . فقيل له ما كنا نرى السحت إلا الأخذ على الحكم . قال الأخذ على الحكم كفر. أما عقابها في الدنيا فقد ترك تحديده لولي الأمر يقدره لما يراعي ظروف الزمان والمكان وما يحقق المصلحة العامة .
2) اختلاس المال العام :
ويأخذ أشكالاً مختلفة منها قيام بعض الجباة بتحصيل أموال غير مستحقة بعضها من قبيل الرسوم أو الغرامات أو العوائد أو الضرائب . أو نهب خزينة المنشأة أو سرقة مخازنها بواسطة المسئولين عنها ، ومعالجة ذلك بقيود دفترية ، وتزوير توقيعات أو قد يتم الاختلاس عن طريق تحويل جانب من المشتريات أو الممتلكات إلى ملكية خاصة . بالإضافة إلى ما سبق فقد يتم الاخـتلاس في صورة مـبالغة بعــض الموظـفـين في تحديد مـصاريف الإقامة والانتقالات في المهام والسفريات بجانب استغلال البعض الهواتف والبريد والسيارات والأدوات المكتبية الحكومية لأغراض شخصية بحتة .
3) التزوير :
ويمثل التزوير في المحررات الرسمية اعتداء غير مباشر على سلطة الدولة والإدارة والمنشأة التي يعبر عنها هذا النوع من المحررات ، فقد يحدث التزوير في أوراق توثيق أحد العقود ، أو في محاضر الجلسات أو الحكم ، أو يحدث في كشوف الترقيات ، أو المرتبات والمكافآت والحوافز وغيرها .
وختاماً : نسأل المولى أن يلهمنا الحكمة والصواب، وأن يجزل لنا الأجر والخير والثواب، وأن ينجينا من المسائلة والعقاب، وأن يجعل عملنا وقولنا وما خطت يدانا حجة لنا يوم فصل الخطاب , وأن يغفر لنا ولوالدينا يوم العرض والحساب .
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض [email protected] [email protected]