الإصلاح الذي ننشد | The change that we admire  

الإصلاح الذي ننشد | The change that we admire  

تاريخ النشر: 23 مايو، 2021

كلما جاء الحديث عن الإصلاح الإداري في هياكل وتنظيمات الدول يبرز شامخاً أمام ناظري “قانون غروب الشمس”، ودعوني أخوتي القراء أوضح لكم ما هو هذا القانون. قانون غروب الشمس Sun-Set Law هو قانون إداري تم تبنيه وتطبيقه للمرة الأولى في أمريكا في ولاية كولورادو عام 1976 وينص على أن تقوم الهيئات والمؤسسات الحكومية بتبرير جدوى وجودها كل سبع سنوات أمام مجلس البرلمان أو سيتم إلغاءها. فأوجد هذا القانون حراك إداري فاعل داخل أجهزة الحكومة في تلك الولاية ثم سرعان ما تبنت الولايات الفدرالية الأخرى هذا القانون بعد أن رأت فوائد ذلك الحراك التنظيمي أو ما يمكن أن نطلق عليه بكل وضوح الإصلاح الإداري عن طريق الإقصاء.

الإصلاح الإداري ركن من الأركان الأساسية التي يتصف بها علم الإدارة وتطبيقاته المختلفة في كافة ميادين الحياة وهي التغير الدائم وسرعة الاستجابة للتحولات البيئية والتقدم العلمي والتقني والتوافق مع الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي. ولذلك لا تزال تظهر بين الفينة وأخرى أصوات إدارية جادة واطروحات علمية محكمة تنادي بتحديث وتطوير الأنظمة وتضع الافتراضات الإجرائية لإعادة هندسة الأجهزة والمؤسسات ورفع كفاءة إنتاجية المنشآت العامة والخاصة على حد سواء.

وما يجب أن نشير إليه قبل تقويم عمليات الإصلاح الإداري في المملكة واستشراف مستقبل القطاع الإداري فيها أن الإصلاح الإداري ليس إدارياً فقط. فمفهوم الإصلاح الإداري يشمل نطاقاً أوسع بكثير من نطاق الجهاز الإداري نفسه ليشمل أبعاداً أخرى تكون منظومة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأي إصلاح إداري في الدولة لا يراعي تلك الأبعاد سيكون مصيره حتماً الفشل. وأي أصلاح لا يراعي شمولية المشاركة لتلك الأنظمة في التطبيق العملي لتلك الإصلاحات لن يكتب له النجاح. والإصلاح المنشود هو إصلاح يتناغم فيه الرغبة القيادية العليا الصريحة والواضحة مع التفاعل الاجتماعي الشعبي مقروناً بالاعتقاد الثقافي للعمل المنشود. وهنا ننظر إلى مستقبل الإصلاح الإداري في المملكة إلى مشروع حضاري لا يجب أن يعكس فقط القرارات السياسية وحدها.

نعم لقد كان اهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بموضوع الإصلاح وتبنيه له محل تقدير جميع الفعاليات الوطنية بل والمنظمات الدولية والحكومات العالمية. وكانت القرارات المتلاحقة في تنظيم وإعادة هيكلة أجهزة الدولة إنجازاً يستحق التقدير، ومن ذلك على سبيل المثال، تطبيق توصيات اللجنة الوزارية للإصلاح الإداري وذلك بفصل بعض الوزارات وإنشاء أخرى كوزارة للمياه ووزارة للعمل و فصل وزارة الحج عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف وتنسيق مرجعيات بعض الأجهزة والمؤسسات الخدمية والتعليمية.وإنشاء هيئة سوق المال وهيئة للسياحة وهيئة للاتصالات. والبدء الفعلي للمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار من خلال الانتخابات البلدية. وفوق ذلك اقتناع المنظمة الدولية بسير عملية الإصلاح مما أهلنا للانضمام لمنظمة التجارة العالمية، وغير ذلك من التغييرات والإنجازات الإصلاحية المتلاحقة.

الإصلاح الإداري طريق طويل وتحد كبير وإجراءاته شاقة وتضحياته ضخمة لكنه الطريق السليم نحو التطور والتقدم والنماء. طريق الإصلاح دوماً يجد عقبات وعوائق كما يتزامن تطبيقه مع ظهور المتصيدين والمعوقين والمخذلين. هذه طبيعة الحركات الإصلاحية عبر التاريخ وفي كل البيئات ابتداءً من المنشآت متناهية الصغر حتى أكبر الدول وأعتاها.  ويشط الحالمون عندما يتخيلون أنهم في بيئة ما سوف يستيقظون بين يوم وليلة على بيئة مثالية تحققت فيها كل خطط الإصلاح الإداري.

إن مستقبل الإصلاح الإداري المنشود يتطلب مشروعاً تنموياً شاملاً يصعب إدراك إبعاده من خلال أطروحة عابرة أو مقال محدود لكننا نتطلع أن تكون بعض ملامحه ما يلي :

أولاً: إن مستقبل الإصلاح لابد أن يتم عن طريق وضع رؤى استراتيجية شاملة للإصلاح. ولك أن تتخيل إن كانت الخطة الاستراتيجية للتعليم الجامعي وحدها تم رصد 42 مليون ريال لوضعها وشارك فيها أكثر من 250 عضو هيئة تدريس من مختلف الجامعات السعودية ومراكز الأبحاث والاستشارات، وهي لا تزال لم تنته ولم تكف مخصصاتها ولم يف وقتها المحدد فكيف سيكون حجم التخطيط الاستراتيجي للدولة بأكملها. أما الخطط الخمسية التي تقوم بإعدادها وزارة التخطيط فأصبحت لا تعدو عن كونها ملء نماذج متكررة ليس لها في أرض الواقع معنى. وإذا قارنا أحد الملامح البارزة لنجاح تجارب دول شرق آسيا نجد أنها قامت على وضع رؤية خاصة بالتنمية ساعدتها على وضع سياساتها الإصلاحية ومكنتها من تحقيق التكامل بين أشطتها وأهدافها في مختلف القطاعات. وقد وفرت هذه الرؤية إطار عمل ومجالاً محدداً وخارطة طريق لسعي تلك البلاد إلى تحقيق قفزات تنموية مشهودة. أما نحن وباقي دولنا العربية فنخطط على أسس زمنية قصيرة أو متوسطة الأجل ومن خلال خطط وطنية لا تستند إلى رؤية استراتيجية للتنمية.

ومن مظاهر غياب التخطيط الاستراتيجي ما نشاهده في نظام الموازنة المالية التقليدي. فالموازنة السنوية السعودية وكافة الدول العربية تعتمد على الأبواب والبنود المحددة ويتم التخصيص بناءاً على السوابق التاريخية، ويعتمد كلياً على التخصيص السنوي بدون اعتبار كبير للتخطيط متوسط أو طويل الأجل. كما لا يتم على أساس تقديم عوامل الإنتاجية أو الأداء. وغالباً ما يؤدي هذا النظام إلى وجود هدر في الموارد. أما موازنة الأداء الذي تبنته معظم الدول التي تفوقت في إصلاح القطاع العام فهو موجه بالنتائج وموازنات الأداء ويعتمد على أساس التأكيد على الأهداف المرحلية وتحقيق نتائجها حتى ولو امتدت إلى عدة سنوات.

ثانياً: نتطلع أن يشمل الإصلاح الإداري إصلاحاً قانونياً شاملاً يلبي الحاجة إلى وجود قواعد جديدة ومرنة تعمل على تنظيم المعاملات وحماية الحقوق وعدالة المنافسة لجميع الأطراف. فإجراءات القضاء لا تزال تعيق كثير من الحقوق وتقف حجر عثرة لكثير من المشاريع فضلاً عن انفصال الجهات القضائية عن الجهات التنفيذية. وبالتالي تبقى كثير من الأحكام مجرد ورق للعزاء أحياناً وللتحسر في أحيان أخرى.

كما لا يخفى على متخصص أن اللوائح والتنظيمات الموضوعة في الدول العربية هي قوانين الإدارة الفرنسية التي تعتمد بشكل كبير على الرسمية، واللوائح التفصيلية، والتوجيهات المركزية وبالتالي يحدث تراكم هائل وضخم في النصوص القانونية والقواعد واللوائح مما يوجد تداخلاً كبيراً وتعارضاً صارخاً في صلاحيات ومهام عدد من القطاعات العامة.

ثالثاً: المضي قدماً في استصدار قرارات إعادة الهيكلة لقطاعات الدولة بناء على توصيات اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري. فلا تزال هناك قطاعات تحتاج إلى إعادة هيكلة ملحة وعلى رأسها جهاز وزارة الداخلية الذي وصل حداً كبيراً من التضخم وُكلف حملاً ثقيلاً من المسئوليات ومطالب كثيرة من الواجبات. ومن ذلك أيضاً فصل إمارات المناطق في وزارة جديدة تكون وزارة للحكم المحلي وما يتبع ذلك من إسناد كثير من مهام بناء التنمية والمجتمع للحكم المحلي. ومن ذلك إعادة هيكلة وزارة العدل، وزارة الدفاع وبيان علاقتها بالحرس الوطني، واستحداث وزارة للشباب، وهيئة للمنشآت الصغيرة وغيرها من الإصلاحات الهيكلية التي سيتم من جراء تنظيمها وإعادة هيكلتها بروز نهضة إصلاحية داخلية كبرى.

رابعاً: التأكيد على سياسة التوجه بالعميل والجودة في قطاعات الدولة ويتضمن ذلك تطبيق ما يسمى “بالمنفذ الواحد” ” One stop shop” هذا النظام يتعامل مع المواطن كعميل ينبغي الاهتمام به وخدمته لا أن يمن عليه بتقديم الخدمات. كما يركز هذا النظام على جودة الخدمات العامة المقدمة له. وهو توجه حديث يجعل القطاعات العامة تتبنى فلسفة القطاع الخاص في خدمة العميل. وقد نجح نظام المنفذ الواحد في عدد من دول العالم المتقدم، كما تقوم دول عربية مثل دبي في الإمارات والأردن باستخدام نماذج مختلفة من نظام المنفذ الواحد لتقديم خدمات عامة للمستثمرين، وإن كانت هذه التجارب لا تزال محدودة جداً.

أما نظام الجودة فيقتضي أن تقوم الدولة بما تحسن بكفاءة عالية تقديمه، وتتخلى عن جل خدماتها للقطاع الخاص. فالخصخصة تضمن توجه الدولة نحو ما يسمى “بالتنمية الموجهة بالسوق” حيث تكون السوق الدولية المفتوحة مجال المنافسة والبقاء والتقويم، وتصبح التنافسية والبحث عن الميزة المستديمة للمميزات ومقدرات الدولة أساساً لوضع الخطط التنموية الطموحة للبلاد، ومجالاً للتنافس البناء بين القطاعات الخدمية الداخلية.

ومن متطلبات الجودة تحويل نظم المعلومات التي تستخدمها الحكومة إلى النظام الآلي، وقد انتشر هذا الاتجاه عالمياً في كثير من الدول المتقدمة ودول شرق آسيا خاصة بعد انتشار استخدام الحواسب الشخصية. وإذا علمنا أن نسبة أعداد الحاسبات الشخصية إلى عدد السكان في المجتمع السعودي تعتبر الأعلى من بين دول الشرق الأوسط فإنه من الجدير أن تتحول القطاعات الحكومية إلى الحكومة الإلكترونية مما سيحسن من عملية إدارة البيانات والمعلومات بشكل كبير ورفع كفاءة العمل في معظم الدوائر الخدمية والأمنية.

خامساً: تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، فهذه المؤسسات تلعب دوراً هاماً في عمليات الإصلاح في المجتمعات المتقدمة وذلك من خلال تبني تلك القضايا المهمة من قبل مختلف الأطراف في المجتمع. وهي ذراع الرقابة الذاتية الداخلية لأداء القطاعات العامة، كما أن تلك المؤسسات هي الأكثر حماساً واهتماماً بمسائل النزاهة والشفافية والإفصاح وتكافؤ الفرص. وعندما تفسح الدولة لمزيد من المساحة الحرة لقيام تلك المؤسسات والاتحادات المهنية والجمعيات المدنية تتحقق كثير من معاني الإصلاح وتزول كثير من مظاهر الانحراف والفساد.

هذه المؤسسات ينبغي أن يتم التوسع في إنشائها ووضع آليات لها تسمح بالتعاون والمشاركة بين الأفراد وفئات المجتمع المختلفة بشتى أطيافها واتجاهاتها وتتيح لهم وضع القواعد العادلة والبناءة وتوافر بيئة تتسم بالحرية وإمكانية التعبير والتصويت. وإن كانت بعض الدول العربية المجاورة تنظر إلى مؤسسات المجتمع المدني في غالب الأحوال كمنافس على السلطة والتأثير على الجماهير، بل وفي بعض الدول منافساً على الدعم الخارجي المادي والمعنوي، ومنفذاً للعلاقات الخارجية بالدول المؤثرة. أما في المملكة فإن هذه المخاوف تظل محدودة جداً خاصة عندما يوضع لتلك المؤسسات أنظمة ولوائح وإجراءات تكفل عملها بشفافية ومسئولية. ولعل تجربة المجالس البلدية، وجمعية حقوق الإنسان تجارب في بدايتها الناجحة.

سادساً: إعادة هندسة وتبسيط العمليات الإدارية. فالدولة بحاجة ماسة إلى إعادة هندسة العمليات والتخلص من المركزية المثبطة والبيروقراطية المعيقة للنمو والتطور والإصلاح. فداء البيروقراطية وطول الإجراءات وتعقيد المعاملات وتأخير البت في القرارات سمة مشتركة في دولنا العربية. فبحسب الدراسات المسحية التي قام بها البنك الدولي ففي الأردن وجد أن المستثمر الذي يريد تسجيل شركة جديدة يجب عليه الانتظار ثلاثة أشهر وفي سوريا خمسة أشهر وفي السعودية شهرين في حين لا يأخذ إلا يومين فقط في دولة مثل كندا. كما أكدت نفس الدراسة أن الحصول على عقد نافذ يستغرق في لبنان حوالي سنتين 721 يوماً، وفي الإمارات 559 يوماً وفي سوريا 596 وفي اليمن 240 يوماً، وفي مصر 202 يوماً وفي السعودية 195 يوماً، بينما يستغرق الحصول على عقد نافذ في تونس سبعة أيام فقط.

هذه التعقيدات البيروقراطية تعزز من تفشي واستفحال الفساد في الأنظمة الإدارية في كافة الدول العربية حتى سجلت أدنى مؤشرات مستوى إدراك الفساد مقارنة بالدول المتقدمة فبحسب التقرير الذي تعده وتنشره منظمة الشفافية العالمية Transparency International المقدر من عشرة درجات قد سجلت مصر 3.3 وسوريا 3.4 والكويت 5.3 والإمارات 5.2 والسعودية 4.5 في حين بلغ في سنغافورة 9.5، وفي الدنمارك 9.5، وفي فلندا 9.7.

وإذا كانت خطط الدولة تؤكد على الإصلاح الإداري فإن ذلك لن يتحقق إلا حينما يتزامن معه الدعوة إلى تطوير الأجهزة الإدارية في المؤسسات العامة وأن تكون الجهات التنفيذية للدولة على مستوى طموح وتطلعات القيادة.  إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى مؤسسات تنفيذية تتبنى  “الإدارة المتحررة”  من الهرم المركز والهيكلية المعقدة في اتخاذ القرار. مؤسسات تدرك هاجس السرعة، وتدعو إلى الإبداع والتجديد. ومؤسسات تحرص على تبسيط إجراءات العمل، وتعي أن الموظف إنما وجد لخدمة المستفيد، وهو الغاية المراد إرضاؤه وأن الأنظمة واللوائح والإجراءات ماهي إلا وسائل لتحقيق ذلك. كما أننا في حاجة إلى مؤسسات تسخر التقنية الحديثة لمتطلبات العملية الإدارية وفعاليتها، ومؤسسات تشرك كافة الموظفين في المناقشة العامة وخطط الجهاز وصناعة القرار وسبل التغيير الكفيلة بنجاحه وتطوره.

وأخيراً أختم هذا المقال العابر بمقوله قالها مهندس الإصلاح الإداري ورئيس اللجنة العليا للجنة الوزارية للتنظيم الإداري في حفل لجائزة الملك فيصل العالمية فقد صرح سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز قائلاً : والإصلاح هو العمل في كل دائرة بمناطق المملكة.. وبكل ضمير موظف مسؤول .. عسكري أو مدني هذا كله إصلاح، أما الإصلاح المخطط الذي يوضع ولا ينفذ لا يسمى إصلاحا.. والإصلاح أن يصلح الإنسان نفسه أولاً، ويصلح ذويه ثانياً، ويصلح بيئته ثالثاً، ثم يقوم بواجبه كاملاً.

هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.

أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض   [email protected]  [email protected]