مضى صديقي … و بقي الكتاب | My friend passed away … while the book remained

مضى صديقي … و بقي الكتاب | My friend passed away … while the book remained

تاريخ النشر: 23 مايو، 2021

كنت كلما تذكرت قول العامة من الناس أن ما بين العبقرية و الجنون شعرة، شرعت بالضحك و الاستهجان حتى مرت بي السنون و الأزمان لتثنت لي معاشرة  الغرباء أن ما كان يردده البسطاء في بلدي حقيقة واقعة دفعتني للشروع في كتابة هذه القصة عن أحد هؤلاء العباقرة.

بطل قصتنا هذه طالب غربي يعيش غريباً في وطن غربي آخر، لكنه لم يكن مغترباً عبرا أو طالبا عاديا…بل كان يتفتق ذكاء و  نباهة  و تميزا. لم يكن عمره يتجاوز الاثنين و العشرين  ربيعا و هو يتقدم لدراسة الدكتوراه بحماسة و ثقة و اقتدار متجاوزا أقرانه الذين شاخوا و علا الشيب رؤوسهم ولحاهم وهم لا يزالون في مراحلهم الأولى من البحث. كان هذا الطالب مضربا للمثل في جده و اجتهاده و جلده  على البحث و التحصيل. تمضي الدقائق تلو الدقائق و الساعات تلو الساعات و هو متسمر أمام جهازه الحاسوبي دون أن يكل أو يمل . استطاع رغم حداثة سنه أن يقدم أوراقا علمية محكمة نالت إعجاب المسؤولين في بلده قبل ان تحوز رضا و قبول المتخصصين في الغربة.

أخذت  أتقرب إليه طمعا في الاستفادة منه و أملا في إسلامه. كنت دوما أراه منهمكا جادا مثابرا في بحثه و دراسته فأتردد كثيرا في قطع حبل أفكاره و تشتيت انتباهه، فأصبحت أتحين الفرصة السانحة التي يحدثني فيها باقتضاب كي أحدثه عن الإسلام و سماحته و عدله ثم اتمكن من  اهدائه كتابا قشيبا مبسطا يعرض مبادئ الاسلام و اركانه بطريقة عصرية جذابة.

حدثني يوما عن الحريق الذي شب في مخيمات الحجيج مستغربا و مستنكرا حدوث هذا في بلد البترودولار التي بإمكانها على حد تعبيره بناء مدينة مؤقتة مهيأة بأحدث ما ابتكرته التكنولوجيا لخدمة الحجيج. و اخذ يطرح علي حلا بعد آخر و اقتراحا يردف آخر، و انا اقدم له الاعذار و المبررات المعهودة كضيق المكان و محدودية الوقت و كثرة الحجيج و قلة وعيهم و جهلهم. ثم سرعان ما تبادر الى ذهني فرصة الدخول في الحديث عن الاسلام و من ثم اهداؤه ذلك الكتاب الذي طال مكوثه و انتظاره امام طاولة المكتب لكنه كعادته انصرف عن القضية باخرى اهم و اولى – حسب معاييره – و مضى و بقي الكتاب.

اخذت اقدم الاعذار تارة و اللوم للنفس تارة اخرى لعدم تمكني من اهدائه الكتاب بينما عاد هو لسجيته و عادته بالانغلاق و الانهماك المذهل بتلك النظرية العلمية التي ينوي ابتكارها. ثم عدت انا لعادتي بالاشادة به في كل مجلس علم والاستشهاد بجده في كل مناسبة مع تحديث نفسي دوما بأنه هدف مناسب للدعوة للاسلام حتى أتت تلك الليلة المنتظرة و الفرصة السانحة المنتظرة و الفرصة السانحة  فدخل علي تلك الليلة مستفسرا اذا كان لدي ما يمكن للمسلم ان يتعرف من خلاله على أوقات الصلاة حسب توقيت مدينتنا؟ كان سؤالا غريبا و طلبا محيرا فلم أكن أتصور ان يكون مثله مطلعا على هذه التفصيلات الدقيقة و المعلومات المفصلة عن شعيرة من شعائر الاسلام، و هو بالامس القريب لم يكن يعرف عن الاسلام سوى اسمه، وما تتناقله وسائل الاعلام عن تخلف أمته، وجهل أبنائه، و تطرف معتنقيه. قلت حينها في نفسي هذا هو الآن وقت إهداء الكتاب، فرحبت كثيرا بطلبه و مددت يدي سريعا إلى مكتبي و قدمت له نسخة من أوقات الصلاة و أخذت أتهيأ لسؤاله عن سبب اهتمامه بالأوقات و من ثم إهداؤه ذلك الكتاب الذي علا عليه الغبار الأسود لكنه سرعان ما شكرني ثم اعتذر لي بحاجته للخروج سريعا لأن شخصا ينتظره في الخارج… و مضى ثانية و بقي الكتاب.

عاهدت نفسي عندئذ أن اقدم له الكتاب مباشرة حينما أراه دون أن انتظر من مبادرة أو استعدادا، فانتظرت ذلك اليوم المرتقب كثيراً وأنا أفوت الفرصة تلو الأخرى، حتى أتى ذلك الصباح الحزين حاملا معه النبأ المؤسف و الفجيعة الكبرى حينما هاتفني مشرفي الأكاديمي في الجامعة قائلا: “هل سمعت ما حدث لفلان”. قلت على الفور: “لا .. لا وماذا حل به” قال وبنبرة تخنقها العبرات “إن فلانا قد انتحر بعد أن ألقى بنفسه أمام القطار فقطعه أجزاءاً و اشلاءاً فلم يعرفوه لا ببنانه”

قالوا مما قالوا أن تلك النظرية العلمية قد استعصت عليه و لم يجد لها حلا إلا الانتحار…، وقالوا أنه رغم نجاحه في حياته العلمية فقد كان يكابد الصب من هجران صديقته، فعبر عن معاناته بالانتحار. أياً كان فقد كانت نهاية مأساوية جعلتني أحمد الله و اثني عليه بأنني لست من أولئك العباقرة الذين لا يفصل بين عبقريتهم و جنونهم إلا شعرة، و لكنني في الوقت نفسه حزنت طويلاً وتألمت كثيراً على فوات الفرص الكثيرة والتفريط في دعوة أمثال صديقي هذا الذي مضى وبقي الكتاب.

 

هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر من رأي قد يناسب الزمان والمكان والظرف الذي قد كتب حينه وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال كما يدور الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.

أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ الإدارة والتسويق، جامعة الملك سعود،الرياض   [email protected]  [email protected]