لازلت أذكر ذلك اليوم الذي تلقى فيه مركزنا الإسلامي المغمور في مدينتنا الجامعية الصغيرة تلك الرسالة الرقيقة من إحدى شركات الوجبات السريعة في أمريكا، والتي وصلتنا بعد أيام قلائل من تساؤلنا حول مكونات الوجبات السريعة المقدمة، والزيت المستخدم في قلي البطاطس (French Fries ). كانت تلك الرسالة تعبق بالعبارات الزكية، والكلمات الرقيقة، وتعبر عن حرص الشركة الكبير على مراعاة خصوصية الأقليات والثقافات المختلفة في القارة الشاسعة.
لم نمكث زمناً طويلاً حتى تسابقت شركات الوجبات السريعة على نشر وعرض لوحات كبيرة داخل مطاعمها تحوي قائمة مفصلة بجميع المكونات الغذائية لما تقدمه من وجبات. وأصبحت بعد ذلك سمة بارزة، وتقليد تسويقي اجتماعي ناجح تحرص عليه معظم شركات الوجبات السريعة في أمريكا.
وما دفعني لتسطير هذه الذكريات الخالية، والمواقف التليدة ما صدمت به حينما أقبل علي بعض الطلبة مستنكرين وشاجبين موقف ثلاث فروع لشركات عالمية للوجبات السريعة لدينا تمتنع عن تزويدهم بمعلومات عن محتوى ومكونات الوجبات السريعة التي يقدمونها للمستهلكين المحليين. وقد اعتذرت شركتان بعدم ملكهم للصلاحيات المخولة للإفصاح عن مثل هذه الأمور السرية، أما الأخرى فلم ترد البته!
حينها خشيت أن يعتقد الطلبة أن ما نذكر لهم عن الفهم العميق للمسؤولية الاجتماعية للشركات الغربية الكبرى، وما نضرب لهم من أمثلة ومواقف تعبر عن إدراك تلك الشركات لأهمية إرضاء وإشباع حاجات المستهلك هو مجرد مبالغات وإعجاب أو انبهار بتلك الحضارة التجارية الزاهرة، فأشرت عليهم حفظاً لماء الوجه، وربما دفاعاً عن تلك المفاهيم الإدارية النظرية الناصعة أن يبعثوا برسائلهم إلى المراكز الرئيسية لتلك الشركات هناك، وحتماً سيصلهم الجواب خلال أيام!
إن شركات الوجبات السريعة العالمية الغربية تعلم بل وتفخر أنها استطاعت عبر الأجيال المتعاقبة أن تجعل الوجبات السريعة جزءاً من التقاليد والعادات الاستهلاكية التي لا غنى للمجتمع الغربي عنها، ساعدها على تعميق هذه السلوكيات التقدم التكنولوجي، واللهاث وراء الأعمال التجارية، والقيمة الباهضة للوقت، وانشغال المرأة بالعمل الوظيفي عن مهامها البيتية مما حتم على الأفراد والمجتمعات الاعتماد واللجوء إلى هذه الوجبات كخيار براجماتي لا بد منه. ورغم علم تلك الشركات بهذه الحقيقة إلا أنهم يدركون أيضاً أن ما يقدمونه من وجبات غذائية ليست صحية، كما أن قيمتها الغذائية فقيرة، هذا مع اعترافهم بما قد تسببه تلك الوجبات من أمراض مزمنة وسمنة، وخطورة على القلب والشرايين. وهي تعي أيضاً ما لعلماء التغذية ووسائل الإعلام من تأثير على المستهلكين عندما يحذرون من الاعتماد عليها ويدعون إلى ترشيد الإقبال والتهافت إليها، ويحذرون أبناءهم من قبل نعومة أظافرهم من الإدمان على ما يطلقون عليه (Junk Food ) . ولذلك فهي تتسابق للتأكيد بأن وجباتها الغذائية عالية، وأنها تقدم مع وجباتها عناصر غذائية مفيدة مثل العصائر والألبان، وتركز في حملاتها الإعلانية بمراعاتها للصحة واللياقة وتجنب الدهون!
أما شركات الوجبات الغذائية العالمية لدينا ورغم أنها تواجه قوى تنافسية إضافية على تلك تواجهها في الغرب فإنها لا تعبأ كثيراً بالمستهلك المحلي. فمن المعلوم أن النمط الاستهلاكي المحلي لا يزال ينظر إلى الوجبات السريعة كترفيه، ومراكزها كأماكن للتسوق أو النزهة خاصة للشباب، كما أن التقاليد والعادات لدينا لا تزال ترفض الاعتماد على الوجبات السريعة كمصدر غذائي رئيسي للأفراد في مختلف الطبقات. ليس ذلك فحسب بل أن مطاعم الوجبات الغذائية المتكاملة الشعبية منها والشعوبية تظل هي الخيار الأول سعراً وجودة وقيمة غذائية لأكثر طبقات المجتمع.
وعلى ذلك فإنه يحسن بالشركات الأجنبية -والظروف التنافسية والبيئية تسير على هذا الحال- أن تتكيف مع متطلبات المستهلك المحلي ورغباته وحاجاته والتي من أهمها الاعتماد على التمويل المحلي للحوم والفواكه والخضراوات الداخلة في إعداد الوجبات،والإفصاح عن مكونات وجباتها ومصادرها، ومراعاة خصوصية البيئة في إعلاناتها وأساليبها الترويجية. فضلاً على أننا نتوخى أن تكون قدوة تحتذى في معاملة المستهلك، وأداة لتدعيم التوجه التسويقي لدى المؤسسات المحلية لدينا. هذا ما نرجو من شركات الوجبات السريعة العالمية أن تعيه وتطبقه هنا كما عرفته ووعته وطبقته تطبيقاً مثالياً هناك!
هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه، وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال والمقال، كما حال في دورة الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.
أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected]