التنمية المتوازية في نموذج القصيم

التنمية المتوازية في نموذج القصيم

تاريخ النشر: 23 مايو، 2021

خلال الجولة التعريفية بالمدينة التي تقوم بها جميع الجامعات البريطانية للملتحقين بها من الطلاب الدوليين، أخذ المرشد السياحي يشرح من فوق قمة قلعة شاهقة عريقة معالم المدينة معلقاً بكل فخر واعتزاز على أحد معالمها الحضارية وهو مستشفى الملكة الذي يُعد حين إنشائه ثاني أكبر مستشفىً في أوروبا قاطبة ومن أكبر مستشفيات العالم، وهو في الوقت نفسه مستشفى الجامعة التي سنلتحق بها.

والمثير للإعجاب ليس فخامة المستشفى وشهرته وإمكانياته وتميزه العلمي، فهذا متوقع في العالم المتقدم طبياً كبريطانيا، ولكن الملفت للنظر هو إقامة هذا الصرح الكبير الضخم في مدينة تُعدُ صغيرة أو على أكبر تقدير تُعد مدينة متوسطة تقع في وسط انجلترا وعلى أحد أهم طرقها السريعة الممتدة من الجنوب إلى الشمال تقريباً.

وما يعنينا هنا هو التجسيد العملي لمفهوم التنمية المتوازية في البلاد، فلم تقم بريطانيا ببناء هذا الصرح الضخم في عاصمتها الشهيرة التي يقصدها ملايين الزوار سنوياً وتخدم ملايين المواطنين هناك لكنها حرصت على وجودها في بيئة صحية مناسبة وموقع قامت على أثره مدينة وانتعشت منطقة الوسط بأكملها.

والتنمية المتوازية مفهوم أساسي في بناء الدول وديمومة تطورها ونموها. فهو يحقق مبدأ العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد ويزيد من فرص العمل والتعليم والثقافة والوعي بشكل عام. كما أن التنمية المتوازية تساهم في السيطرة الأمنية العامة على المدينة وبالتالي انخفاض نسبة الجريمة والانحراف. كما أنها تساهم في تحسين مستوى النوعية، وتعزيز مبدأ الوضوح والشفافية على الممارسات الإدارية والإجرائية، وتفرض رقابة شعبية محلية لأبناء المدينة على مسئوليها في شتى القطاعات. كما أن التنمية المتوازية تعزز من الاستقرار الأمني بتقليل الفجوات السكانية المتباعدة بين المدن. وتساهم في التوطين الجغرافي السكاني المبني على التوزيع المتوازي للمدن. 

وإحقاقاً للحق فإن هذه البلاد قد تميزت بالتوزيع المتوازي لكثير من المشاريع التنموية العديدة، لكن التكدس في بعض المدن كالعاصمة وجدة تحديداً يجعل الأمر جديراً بالطرح مراتٍ عديدة، خاصة عندما تحيط هذه المدن مدنٌ أخرى قادرةٌ على امتصاص هذا التضخم، ومؤهلة للنمو والتطور والانتعاش.

وهذا المبدأ يندرج تحت مفهوم تحديد النطاق الإقليمي للمنطقة بشكل أشمل من كونه نطاقاً لمدينة وحدها. ويفرض على المناطق أن تنحو منحى التوزيع المتوازي للتنمية والرؤية التكاملية للإقليم، لا تكرار النماذج المتضخمة الأخرى. هنا يتم التوزيع وفق رؤية أشمل وأوسع وعلى أسس تنظر وتتحسب للمستقبل. وما نريده على مستوى البلاد لابد أن نبدأه على مستوى الإقليم. 

فعلى سبيل المثال تُعد منطقة القصيم أحد المناطق النموذجية في السعودية من حيث تكامل البنى التحتية والخدمات والطرق والمرافق الصحية والتعليمية والاجتماعية. وهي بذلك مؤهلةٌ لاستقطاب كثيرٍ من المشاريع التنموية العملاقة، وبالتالي إيقاف الهجرة السكانية المتزايدة لأبنائها. وعندما ننظر إلى إمكانيات المدن المحيطة بعاصمة المنطقة (بريدة) نجد أن مدينة مثل (البكيرية) تستطيع أن تكون المدينة الصحية الأولى خاصة وأنها قد سجلت عالمياً لقباً لم تسجله مدينة أخرى وهي بذلك مؤهلة لاستقطاب المشاريع الصحية والبيئية المختلفة، ويمكن أن تدعم بالاستثمارات الحكومية المختلفة والمكملة للمجال الطبي والصحي بشكلٍ عام، كما يمكن تشجيع الاستثمارات الخاصة للمساهمة في تحويل هذه المدينة إلى مدينة صحية يقصدها باقي الإقليم لهذا الغرض.

كما أن مدينة مثل (عنيزه) تستطيع أن تكون رائدة في المجال الثقافي في شتى صوره المختلفة، فنوجه إليها المناشط الثقافية وتنشأ فيها المراكز والأندية الثقافية والمتاحف ومراكز المحاضرات والندوات والمكتبات العامة ووسائل الترويح وأنشطة الأسرة الترفيهية، فتنصب هذه المشاريع في هذه المدينة ويتم قصدها في المناسبات الصيفية والمهرجانات الثقافية كميزة من المهم إنعاشها ودعمها.

وربما تميزت (الرس) بالمناشط التراثية نظراً لغناها بالمواقع الشهيرة. مثل برج الشنانة وجبل خزاز التاريخي وسواج. وتتميز مدينة (البدائع) بالزراعة وجودة النخيل والثمار بشكل عام لتتهيأ لتصبح مدينة زراعية نموذجية.  

وبشكل أشمل يمكن التقسيم على الأساس التكاملي للعاصمة التي تبرز فيها الأنشطة التجارية والصناعية والأجهزة الرئيسية للقطاع العام. وتتميز نسبياً وتنافسياً باقي المدن الأخرى بالمجالات الزراعية والثقافية والتراثية. 

وما ذكرناه عن القصيم مجرد مثال ربما كان الوضع في غيرها أوضح وأدق. ويبقى الهدف أنه بمثل هذا التوجه تنمو وتتطور وتبنى مدن على ميزات تنافسية قادرة على المنافسة المحلية والعالمية.

 

هذا المقال هو رأي شخصي للكاتب. فما ذكر فيه قد يناسب الزمان والمكان الذي قد كتب حينه،  وقد لا يتناسب مع الحاضر اليوم أو المستقبل، أو ربما عبر عن نفس الحال  والمقال، كما هي الحال في دورة الزمان وتتجدد الأحداث الأحزان.ويعيد التاريخ نفسه.

أ. د. أحمد الشميمري، أستاذ التسويق وريادة الأعمال- جامعة الملك سعود،الرياض [email protected]